12‏/10‏/2024

رحيل شوقي أبي شقرا آخر رموز قصيدة النثر العربية🇱🇧

رحل عن هده الدنيا الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا (1935 - 2024) الذي كان من رواد الشعر السريّالي في لبنان،ومن أوائل من كتب قصيدة النثر العربية.ساهم مساهمة فاعلةً في الصحافة اللبنانية التي عمل فيها جلّ حياته،إذ أسّس أوّل صفحة ثقافية لبنانية في جريدة "النهار"،وكانت رائدةً في مجالها،وبقي يتولّى مسؤوليّتها حتى عام 1999،وكتب مقالات نقدية في المسرح والأدب والفن التشكيلي.

عام 2000، أصدر كتاباً يضمّ مجموعة مقالات كان قد نشرها في مراحل مختلفة في الصفحة الثقافية لجريدة النهار.الكتاب يحمل عنواناً لافتاً: “سائق الأمس ينزل من العربة”،لكنّ سائق الأمس، وليس جديراً بهذا اللقب أحد غير شوقي أبو شقرا، لم يعلم أنّ رحلة النزول ستستغرق 24 عاماً.

عاش زمانين مختلفين، زمن الحرب وزمن شوقي الشاعر،زمن لا يتّسع لأيّ آخر وزمن فيه كلّ آخر ومختلف،زمن تملأ سماءه وفضاءه وأرضه وسهوله وجباله وبحره الصواريخ والقذائف والانفجارات والطائرات العسكرية، وزمن يعجّ بالشعر والقصائد والمقالات والنصوص والكتب ودور النشر والمجلّات والجرائد ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي،زمن تتهدّم فيه المباني والبيوت ويُقتَل فيه الأبرياء، وزمن تتهدّم فيه البنى التقليدية والرجعية في الشعر والنثر والثقافة والاجتماع والسياسة ويولد فيه الناس من جديد،زمن يعجّ بالفرق والميليشيات العسكرية والعصابات الصهيونية والحركات الدينية،وزمن تملأ فيه الدنيا الحركات الثقافية والشعرية المجدّدة والطليعية.فلم نعد نعرف هل نرثي الشاعر أم لبنان؟

يعد شوقي أحد أهم رواد قصيدة النثر، ومن أبرز أركان مجلة"شعر"

التي جمعت أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال وغيرهم.والتي ساهمت في إطلاق جيل الرواد في الشعر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين،ورغم الحداثة التي تميزت بها مجلة شعر،وحداثته وانخراطه في حركات حداثية ودعوته إلى التجديد دائماً،لم تخرج قصائده من إطار الريف،ريف لبنان الذي نشأ ونما فيه،شعره بقي محافظا على نكهته المحلية،

وظلّت مفردات المنشأ عالقةً في شعره وإن حملت معاني أوسع،

حيث تطبع قصائده، رائحة الجبل والطبيعة وأجواء الريف اللبناني بقيت حاضرة في دواوينه،إذ يستوحي مشاهده الشعرية من النبتات والأزهار والحيوانات الأليفة. 

مفردات الجبل عند أبي شقرا انزاحت عن مسارها التقليدي لتلحق بنبرة سوريالية،رغم تحرر شعره من الأوزان والقافية،حتى إنه لقِّب بشاعر السوريالية الريفية.كما تمتزج في قصائده الفكاهة مع تقنيات الخيال الكبير.

بدأ كتاباته الشعرية باللغة الفرنسية،ثم انتقل إلى كتابة القصائد العمودية الكلاسيكية بالعربية من خلال ديوانيه " أكياس الفقراء" و"خطوات الملك"،ثم اتجه إلى شعر التفعيلة،قبل أن ينتقل ويستقر أخيرًا على قصيدة النثر كقالب فني لعمله في ديوانه الثالث "ماء إلى حصان العائلة"،فقصيدة النثر في زمانه كانت في جلّ تجاربها تعكس أصداء ثقافية متأتية من الترجمات عن الإنجليزية والفرنسية لشعراء كبار، وكانت تحرص على بناء خصوصيتها واستقلاليتها وثيماتها الخاصة عبر حشد من الشعراء الذين يمكن إيجاد نسيج عام يجمع بينهم.

ديوانه “ماء إلى حصان العائلة” سيبقى عنواناً بارزاً لقصيدة النثر لسنوات طويلة. وريادته في قصيدة النثر لم تكن إلا بعد إثباته جدارته في ما سبقها من مبانٍ وأشكال شعرية،أي أنّه برع في كتابة الشعر العمودي كما في كتابة شعر التفعيلة التي أنجز فيها قصائد مختلفة عن قصائد روّادها العراقيين عبد الوهاب البيّاتي وبدر شاكر السيّاب وغيرهما.أمّا نثره فشعر آخر لا يقلّ جمالاً وفرادةً وفُجاءةً عن شعره.

شحن كتابته بالبنية الارتطامية ولكنه حرص على خلق بنية دلالية عامة لا تذهب في اتجاه التحطم والتناثر بل تتبنى الانتشار والامتداد.

شوقي، ليس شاعرا صرفا.. هو شاعر عصابي.. شاعر ممسوس بالشعر.. قلق به.. كما تقلق الماء في الإهاب.في سكن منعزل، في أوراق العزلة، وفي أطوارها الغرائبية، هكذا يتجه شوقي  للكتابة.

عيناه أمامه،بأمتار، والعالم خلفه،أو على ظهره كجواد إمرئ القيس،

يحفر في النفق المظلم الذي يخيّم على حياته،ويختار الخطى ويختار الكلمات ويختار الأقفاص الملونة،التي أبلتها خوافي العصافير والزقزقات،ليوقع بنظارتيه،ديوان الإنسانية وديوان الإنسان.. وديوان العالم حوله. يقول في قصيدته "حصار":

"الوردة ترقص وتعاني وتستجدي قناع الإسكندر وأمواج الزوارق، وشربين الحصار... والويل شخص الليل،وحده ينزل في الفوهة، وتنقضي العطلة وتلتهم الصدفة (ص33).

يختصر قصيدة كاملة، في كل برهة صعبة.. يكتب الصعوبات.. يحملها على أكتافه.. يفرد بدنه على خشباتها، ويمتص موته البطيء الثقيل.. يمجّه مجّا، كما يفعل المدمن بسيجارته،ثم يطفئها بكمّه.. يمعسها معساً، وينقفها بإصبعه بعيدا،لتصيب من تصيب، وتخطئ من تخطئ، بلا قصد ولا إعتبار ولا نكهة.

يمشي إذن، شوقي أبي شقرا، على الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال والأسطورة والواقع، بين تعرجات السياسة الممنطقة،وبين تكسرات المنطق المتفلت من السياسة، الهارب كطيف.

يلعب أبي شقرا، على تطوير معنى الجمال الحسي والروحي، في تعبير الجسد الذي يشق أكفانه منذ عهد آدم. يفعل عمل الحواس، بأعلى طاقاتها نحو الإنغماس في آبار وأجران الموتى، الذين خبأوا فيها نبيذهم، ليعودوا، أجمل مما كانوا، في قانا، حول السيد....

من دواوينه التي استُقبلت بحفاوة من قبل النقاد والشعراء ديوان "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة"الذي حاز على جائزة مجلة "شعر" في العام 1962.ومن دواوينه الأخرى "سنجاب يقع من البرج"،و"يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضًا"،و"لا تأخذ تاج فتى الهيكل"،و"صلاة الاشتياق على سرير الوحدة"، و"ثياب سهرة الواحة والعشبة"،و"سائق الأمس ينزل من العربة"،و"حبر ترجمات كالخمر يعتق"،و"عندنا الآهة والأغنية والصدى"وصولا إلى ديوانه الأخير "أنت والأنملة تداعبان خصورهن"..

ترجم نصوصا شعرية لشعراء كبار أمثال رامبو،وريفيردي،وأبولينير، ولوتريامون.حاز العديد من الجوائز، وكتب عن شعره العديد من النقاد، كما خضعت أعماله للدراسة الأكاديمية من قبل أكثر من طالب ماجستير ودكتوراه في لبنان، إذ يعدّ من رواد كتابة الشعر السوريالي في لبنان.

في قصيدة من ديوان "أكياس الفقراء" بعنوان "المضحك العجوز" يقول:

"مع قنينته، يشرب للعمر الأخير 

لبقايا الخاطر المكسور كالإبريق. 

في درب الضمير 

سوّست أضراسه بالضحك. 

دائخ يصبغ أيدي المنقذين 

بدهان.

واقف تحت شتاء العتمة 

والزمان!

*لروحه الرحمة والسكينة


ماجد مصدق

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: رحيل شوقي أبي شقرا آخر رموز قصيدة النثر العربية🇱🇧 Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top