01‏/01‏/2023

منصف الوهايبي: الفرنكفونيّة والأدب: كلّ يغنّي على ليلاه

الشاعر التونسي منصف الوهايبي

احتفلت تونس مثل غيرها بالذكرى السنويّة الخمسين للفرنكفونيّة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، في مدينة جربة، في صخب وبهرج؛ وإن كنت لا أقصد بالبهرج هنا الباطل والرديء من الشيء، وإنّما الاحتفال الإعلامي العابر الذي لا يدوم ولا يعمّر. و”احتفلت” هذا الشهر باليوم العالمي للعربيّة، وإن بقدر من الاحتشام غير قليل؛ في حين أنّ رئيسها لا يخاطبنا إلاّ بالعربيّة الفصحى أو الفصيحة.

ولدت منظّمة الفرنكفونيّة يوم 20 آذار (مارس) 1970 في مؤتمر نيامي. وفي مثل هذا اليوم من عام 1956 استقلّت تونس. والغرض أو الهدف كما جاء في ميثاقها هو تأكيد التعاون بين الأعضاء وتطويره في شتّى مجالات التعليم والثقافة والعلوم والتكنولوجيا. وفي مقال بالفرنسيّة متميّز للأستاذ والشاعر التونسي عبد العزيز قاسم، إشارة إلى سمتين تلازمان وضع الفرنسيّة في أفريقيا السوداء والمغرب العربي، والشام بالنسبة إلى البعض، فهي إرث التاريخ أو هبته، مثلما هي إرث الاستعمار أو أثره. على أنّ ظهور الأدب العربي أو المغاربي الناطق بالفرنسيّة، وإن في شكل أشعار بارناسيّة وحكايات شعبيّة، وقصص محلّية “عرقيّة”؛ وهو الذي تنسب أبوّته إلى الاستعمار، شكّل عند أحد أبرز المستعربين هو جاك بيرك “مفاجأة إنهاء الاستعمار الغامضة آنَ كانت سياسة كارثيّة تقطع صلتنا [الفرنسيّون] بالشرق”.
كان لا بدّ من أخذ هذا “القرين” بالاعتبار، وهو جزء من ثقافة المغاربيّين عامّة؛ وأمّا تنزيله في آدابهم ذات اللسان العربي، أو حمله على وجه من “التعدّديّة اللغويّة”، فقد يكون من الدعاوى الموهومة. والأدب مهما يكن الموقف منه؛ هو ملتقى حقّين: الحقّ التاريخي (الانتماء إلى العالم العربي) والحقّ الأدبي (اللغة العربيّة).
على أنّ احتفاء الأوروبيّين بأدبنا المكتوب بلغاتهم (الفرنسيّة خاصّة) لم يفضِ إلى أدب متوسّطيّ تتجاوب فيه لغات البحر الأبيض المتوسّط، تلك التي وسمتها العربيّة بميسمها مثل الإسبانيّة والبرتغاليّة والإيطاليّة والفرنسيّة. ولعلّه أن يمهّد السبيل لبعث “متخيّل” متوسّطيّ يمكن أن تتولّد منه صورة هذا الأدب المنشود.
لكن إذا كانت الآداب المغاربيّة (في تونس والمغرب والجزائر) المكتوبة بالعربيّة ترجع إلى الحقبة الأولى من الفتح العربي؛ فإنّ قرينتها المكتوبة بالفرنسيّة حديثة الميلاد، إذ نشأت خلال الحقبة الاستعماريّة، وتحديدا في النصف الأوّل من القرن العشرين. بل إنّ الفرنسي جون ديجو يرجع ظهورها من منظور أدبيّ جماليّ خالص، إلى الخمسينات من القرن الماضي. وهو يعزو ذلك إلى أسباب من أبرزها الدور الذي نهضت به بعض دور النشر في التعريف بهذه الآداب ذات اللسان الفرنسي؛ وهي تحديدا: Seuil, Denoël, Plon.
ويمكن القول دون أيّ تحيّف على هذه الآداب المغاربيّة ذات اللسان الفرنسي إنّها تنضوي إلى “الفرنكفونيّة” بالمعنى الثقافي للكلمة. على أنّ ديجو يلاحظ عن حقّ أنّ “فرنكوفوني” لا تعني ضرورة “فرنكوفيل” [محبّ لفرنسا]، وأنّ هؤلاء الكتّاب المغاربيّين من ذوي اللسان الفرنسي، يكتبون دون أن يتنصّلوا من هويّتهم الوطنيّة. وبلدان المغرب العربي تنصّ دساتيرها على أنّ العربيّة لغتها الرسميّة، وأنّ ثقافتها عربيّة إسلاميّة، إلى جانب اللغة الأمازيغيّة؛ ولكن في إطار تحصين الوحدة الوطنيّة. يقول ديجو “إنّ في بلاد المغرب الكبير أدبا ناطقا بالعربيّة قديما جدّا، هو متجدّد منذ استقلال بلدانه؛ فثمّة كتابات بالبربريّة [الأمازيغيّة] منشورة يوازيها أدب شفويّ شعبي غنيّ لا يزال يرفع من شأن التراث الثقافي. فالمغرب الكبير واحد شتّى”.
وتنسيب الوصف أو الحكم يقتضي أن نأخذ هذا السياق بالحسبان، حتى لا يذهبنّ في الظنّ أنّنا إزاء وحدة ثقافيّة متجانسة، أو نجعل الجغرافيا تحجب عن التاريخ؛ ولكلّ من هذه البلدان على وشائج القربى التي تجمع بعضها ببعض؛ أو “الجوار الروحي”؛ شخصيّتها الثقافيّة، وتاريخها الخاصّ. فالجزائر التي اعتبرتها فرنسا “فرنسيّة”، وسعت إلى “فرنستها” والاستحواذ على روح شعبها، استرجعت عربيّتها. وأمّا في المغرب وتونس، فإنّ العربيّة احتفظت بمكانتها طوال حقبة الاستعمار، بل بكثير من ألقها. على أنّ البلدان الثلاثة وجدت في الفرنسيّة ما يغني ثقافتها العربيّة الإسلاميّة، فهي”نافذة مشرعة على عالم المنطق والعقل والقياس” بتعبير الملك الحسن الثاني، أو”غنيمة حرب” كما قال كاتب ياسين، بل إنّ تونس “صنعت عقليّة جديدة بواسطة الفرنسيّة من حيث هي عامل بناء ولقاء وتواصل وإغناء قويّ” كما قال الحبيب بورقيبة. ولا غرابة فقد تكلّم أسلافنا في تونس بالأمازيغيّة والبونيّة واليونانيّة واللاتينيّة، فالعربيّة والفرنسيّة.
والفرنسيّة هي التي حفزت الآباء المؤسّسين، الذين كانوا كلّهم أفارقة: الحبيب بورقيبة وسنغور (السنغال) وحاماني ديوري (النيجر)؛ ثمّ انضمّ إليهم الأمير نورودوم سيهانوك (كمبوديا)، إلى بعث المنظّمة الفرنكفونيّة. على أنّ قول عبد العزيز قاسم إنّ فرنسا باركتها، وعملت على استقلاليّتها، مسألة فيها نظر. وحتى خطاب أندريه مالرو وزير الدولة للشؤون الثقافيّة في 17 شباط (فبراير) 1969 حيث ركّز القول في ما أسماه “ثقافة الأخوّة” وفي أنّ “الثقافة الفرنكفونيّة فقط، على وجه الخصوص، لا تملي على أفريقيا الخضوع للغرب بفقدان روحها”، يصعب أن يُقرأ بمعزل عن موقفه “المناوئ” للإسلام (1956) الذي تمثّلت به في مقال سابق، وفيه ينبّه إلى “خطورة الظاهرة الإسلاميّة” وصعود الإسلام الذي يشبّهه ببدايات الشيوعيّة زمن لينين، فيما “العالم الغربي غير مستعدّ لمواجهة مشكلة الإسلام… حيث تشير الدلائل الحاليّة إلى أن أشكالًا مختلفة من الديكتاتوريّة الإسلاميّة ستقام على التوالي في جميع أنحاء العالم العربي”. ويضيف أنّ الوقت قد فات لوقف هذا المدّ، وإنّ “البؤساء” والعبارة له: “ليس لديهم الكثير ممّا يخسرونه. بل سوف يؤْثرون الاحتفاظ ببؤسهم داخل طائفتهم المسلمة. وسيبقى مصيرهم بلا شكّ دون تغيير. إنّ تصوّرنا عنهم غربي أكثر من اللزوم. وهم سيفضّلون مستقبل جنسهم على النعم التي ندّعي أنّه بالإمكان إغداقها عليهم. ولن تظلّ أفريقيا السوداء طويلا بمنأى عن هذه السيرورة. وكلّ ما نقدر على فعله هو أن ندرك خطورة الظاهرة، ونحاول تأخير تطوّرها”.
والواقع اليوم أنّ الفرنسيّة “المنتشرة” بشكل أو بآخر في جميع القارات، بدأت تخلي المشهد لصالح اللغة الإنكليزيّة. قال عبد الله الغذامي في مؤتمر “قمّة اللغة العربيّة” الذي انعقد في أبو ظبي هذا الشهر، إنّ الإنكليزيّة من حيث هي لغة عالميّة هي لغة الحداثة، وإنّ كلّ من يجهلها هو خارج العصر. وأقدّر أنّ في قوله مقدارا من الشطط، فالفرنسيّة وإن لم تعد منذ عقود في الصدارة، لا تزال لغة علم وحداثة، بالرغم من ناقوس الخطر الذي يدقّ في مواجهة التدهور اللغوي في فرنسا نفسها، وما إذا كان لا يزال بإمكان أفريقيا السوداء التحدّث بالفرنسيّة؟ والسؤال نفسه يطرح في شمال أفريقيا كلّه، بما في ذلك الجزائر؛ وليس تونس وحدها كما يُظنّ، حيث لا تزال تسند آلاف الأصفار في امتحان اللغة الفرنسية في البكلوريا، وينعت “الفرنكفونيّون” بـ”الحثالة” أو بـ”حزب فرنسا”.
والحقّ أنّ الفرنسيّة تحرّر كثيرا منّا من ثقل التقاليد، سواء عند من يكتب بها، أو من يتعلّم منها ومن آدابها. صحيح أنّ الفرنسيّة ليست في أفضل حالاتها كما يقول عبد العزيز قاسم؛ الأمر الذي يستدعي تشخيصا عميقا لوضعها من حيث هي اليوم ليست أكثر من “لغة إقليميّة” بعبارة إميل سيوران. وصحيح أيضا أنّها من دون أدب عظيم لن تكون سوى صدفة فارغة. وهذا الأدب المغاربي الناطق بالفرنسيّة هو كما يقول رشيد ميموني (1945/1995) هو “أدب الأمر الواقع” الذي لم نتدبّر له مستقبلا ولا وضعا.
جاء في لسان العرب أنّ لَيْلى من أَسماء الخمرة، وبها سمّيت المرأَة. ويقال ليلة لَيْلاءُ ولَيْلى: طويلة شديدة صعبة، وقيل: هي أَشد لَيالي الشهر ظلمة، وبه سمّيت المرأَة ليلى. ويقال للقرشي إذا ضعف “أبو ليلى”. وقد نخلص من هذه الإشارات اللغويّة الخاطفة التي ترافق اسم “ليلى” كالطول والشدّة والصعوبة والظلمة والضعف، فضلا عن شتى معاني الخمرة، إلى أنّ ظلّ المعنى أو ما نسمّيه الدلالة غير المباشرة أو الدلالة الإضافيّة التي ترافق كلّ مفهوم أصلي، هي السمة التي تجعل الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد؛ بل تفضي بها عبر تناسخات لغويّة كثيرة لا إلى تغيّرها فحسب، وإنّما إلى زوالها أيضا.
وتبقى الكلمة، لكنّها تغيّر ما بها من المعنى أكثر ممّا هي تضمحلّ أو تتلاشى. وقد تتّسع الكلمة في حقبة لجملة من المعاني، ثمّ تقصر في أخرى على معنى واحد، وقد تمرّ الكلمة بالطّورين معا: انتشار يعقبه انحسار. وهذان هما اللذان يسمان اليوم لغتين تتجاذبان فضاءنا المغاربي، وكأنّ كلاّ يدّعي وصلا بليلى، واللغتان هما الفرنسيّة والعربيّة اللتان تزاحمهما الإنكليزيّة، فضلا عن “العاميّات” التي لم نعرف كيف نجسر الهوّة بينها وبين العربيّة.


بقلم منصف الوهايبي
٭ كاتب من تونس

عن القدس العربي



  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: منصف الوهايبي: الفرنكفونيّة والأدب: كلّ يغنّي على ليلاه Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top