06‏/11‏/2022

عبد السلام المودن.... الإيديولوجي الأخير

عبد السلام في ذكرى الرحيل: 1951- 05 نونبر 1992


كتب لعبد السلام المودن أن يموت في سن مبكرة؛ استشهاده الملغز الذي رُزئت به الحركة اليسارية التقدمية المغربية عموما، كان بإمكانه أن يُسْفِر عن مفكر نوعي يكون فكره مرجعا لقوى اليسار في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. إن الاستشهاد المبكر وظروف السجن السيئة التي عاشها عبد السلام حالتا دون إتمام المشروع الفكري الذي بدأه، وإن كان يعترف على النقيض من ذلك في رسالته المعنونة بالزنزانة 28: "الأهم أني بلغتُ كل أهدافي". وهي الأهداف التي تتماشى مع طبيعة الوضع السياسي الوطني آنذاك، وكذا الوضع التنظيمي والذاتي. لقد كان عبد السلام من طينة المفكرين الكبار القلائل الذين تمثلوا الفلسفة الألمانية باللغة الأم التي كُتبت بها. على هذا الأساس كانت محاورته لفكر هيغل وماركس وتمثله لفلسفتهما عميقا جدا، بالمقارنة مع أغلب المفكرين العرب الذين وصلتهم الفلسفة الألمانية عن طريق الترجمة الأنجليزية أو الفرنسية أو العربية في أسوأ الحالات. إن الخلاصة التي ينبغي أن نؤمن بها قبل الخوض في التفاصيل أن عبد السلام كان ليكون في مصاف عبد الله العروي لولا الموت المبكر والاغتيال الغادر. فهل يعتبر هذا التبوؤ مجازفة أم حيفا؟.


بوعيه النقدي العميق، استشعر عبد السلام المودن وهو في السجن المركزي بالقنيطرة أهمية اللغة الألمانية في دراسة هيغل وماركس، حيث أخذ على عاتقه مهمة تعلم اللغة من أجل فهم أعمق، لأن النسخة الفرنسية التي كان يعتمد عليها لم تكن وفية، ذلك أن الترجمة خائنة بتعبير جموع المترجمين. لقد تنبه الفيلسوف المغربي عبد الله العروي إلى أهمية اللغة الأصلية في دراسة الفكر والأدب، فانفتح على اللغة الألمانية لدراسة هيغل وماركس والروسية لدراسة الأدب الروسي، فكان توظيفه للفلسفة الألمانية عميقا يعكس سر اللغة الأم، عكس الذين اكتفوا بالترجمة. عبد السلام المودن، حذا حذو العروي، أو قل إنهما متزامنان. إنه، وبمنطقه الخاص وعى خطورة الترجمة على المستوى المفاهيمي، وهو في عزلة السجن المركزي. يقول في الزنزانة 28: "إن أبرز إشكالية كانت إشكالية الترجمة. لقد لاحظتُ أن المترجمين الفرنسيين غير متفقين مع بعضهم في طريقة نقل وترجمة المفاهيم الهيغيلية. فكل مترجم كان يترجم أفكار هيغل حسب فهمه الخاص واجتهاده الخاص. أمام هذه الحيرة التي واجهتني في احتكاكي مع المترجمين الفرنسيين، اتخذتُ قرار تعلم اللغة الألمانية. (...) حبي الشديد لماركس وهيغل قد حفزني لتعلم اللغة التي يكتبان ويفكران بها". إن هذا الحب الشخصي والرغبة الذاتية في تمثل الفكر الهيغلي والماركسي قد حفَّز عبد السلام على تعلم اللغة الألمانية، لا لأنه شغوف باللغة والتمثل، بل بالحقيقة الفلسفية في لحظتها البكر، قبل أن تتسربل بزئبقية الترجمة وسلطة اللغة وغواية المترجم. تقتضي الترجمة الإلمام بالموضوع المتَرجم وباللغتين الخاصتين بالموضوع في أصله وفي سياق نقله، حيث الغنج والتأويل.

لم يتوقف عبد السلام عند العطب الثاوي في الترجمة، بل تجاوزه إلى عمق الإشكالية المتعلقة بالنسق الفلسفي المؤطر للفعل السياسي. لقد جاء عبد السلام إلى السياسة من باب الإيديولوجيا، وهي البوابة الرحبة للفعل. من يتحزب بمنطق السياسة، يعيش رهين التدبير اليومي للفعل الحزبي. على هذا الأساس، تعمق عبد السلام في الفكرة؛ في الإيديولوجيا لكي يحمل معول التأسيس الإبيستيمولوجي لليسار الجديد بالمغرب، على عكس العديدين من أولئك الذين اكتفوا بالسياسة خارج خندق الفكر والإيديولوجيا. يقول عبد السلام في الزنزانة 28: "إن تفكيرا طويلا في المسألة قادني إلى القناعة التالية: إن السبب الجوهري لتعطل حركتنا السياسية من وجهة نظري على الصعيد الذاتي يكمن في مواقفنا وبرامجنا السياسية توجد دائما بدون أساس فلسفي. وفِي غياب الأساس الفلسفي يصبح البرنامج السياسي مجرد ركام من الأفكار المجردة الذاتية والموضوعية. ومن هنا طرحت على نفسي مهمة تكوين نفسي تكوينا صلبا، وذلك بدراسة علم المنطق الجدلي. لقد قرأتُ كل ما كتبه ماركس وأنجلز ولينين في مجال علم المنطق، ولدى دراستي لكتاب الرأسمال، اعترضتني إشكاليات نظرية ومنطقية بالغة التعقيد. لقد بذلتُ جهدا كثيرا لفهمها وحلها بوسائلي الخاصة، لكنني لم أفلح. الأمر الذي دفعني إلى التفرغ لدراسة منطق هيغل. ومع هيغل بدأت رحلة العذاب. لكن بشيء من الصبر والمثابرة أحرزت بعض التقدم في فهم هيغل. وكلما تقدمتُ في فك الأسرار الهيغلية إلا واعترضت سبيلي إشكالية منطقية جديدة."


لقد كانت قيادات اليسار الجديد شابة، وتعيش سطحية إيديولوجية، مع معرفة عميقة بتفاصيل الواقع المعيش. هذا الأمر يتعلق ببداية السبعينيات. لكن مع بدء مرحلة الاعتقالات، فإن القيادات اليسارية قد تعمقت أكثر في الماركسية داخل السجن مع بعد ملحوظ عن الواقع المعيش، بسبب الاعتقال. وبالتالي فإن القيادة قد وجدت نفسها، أما مفارقتين هامتين: المعرفة العميقة بخبايا الواقع المعيش، مع سطحية التكوين الإيديولوجي، أو التعمق في فهم النظرية الماركسية، مع شُح المعطيات المتعلقة بالواقع المغربي، بسبب الاعتقال أو المنفى في المقابل. وفي سياق موازٍ، يمكن القول إن العديد من قيادات اليسار الآن، قد قرأت ماركس وهي في مرحلة الجامعة، لكن وبعد مرحلة التخرج والاشتغال، فقد تعاطت للعمل السياسي، دون مراجعة القناعات الإيديولوجية من جديد. ما يعني أن الماركسية التي تلقاها واستوعبها الطالب وهو في الجامعة، ينبغي أن تُراجع من جديد، وأن تُقرأ قراءة واقعية بعيدا عن حماسة الجامعة وسياق الشباب. والممارسة السياسية السليمة تقتضي من المناضل، عدم الاكتفاء بقراءة يتيمة للماركسية، بل ينبغي أن تكون قراءة مستمرة مسترسلة غير خاضعة لمنطق الزمان والمكان. لقد جمع عبد السلام المودن بأريحية بين المتناقضات التي يمكن أن تُسجل في خانة السلبيات. لقد أعاد قراءة ماركس بالنفَس الثوري الشبابي المتجدد. لقد انتصر الشهيد للإيديولوجيا، وإن كان محترفا للسياسة وللتنظيم.

زهير دادي، عضو المكتب الإقليمي للحزب الاشتراكي الموحد، فاس.

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: عبد السلام المودن.... الإيديولوجي الأخير Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top