21‏/03‏/2022

الدكتور محمد الجناتي: الطائرات المسلحة بدون طيار من منظور القانون الدولي

                                                   


أصبح النظام الدولي اليوم مُعرَّض أكثر من أي وقت مضى للتغيُّر وعوامل التغيُّر كثيرة، يأتي التطوّر التكنولوجي في مقدّمتها. فالاختراعات في المجال العسكري كانت دائمًا العامل الحاسم و الأهم في تغيير مواقع الدول في سلَّم القوى الدوليّة حيت أن مستوى ودرجة التطوّر التكنولوجي في المجال العسكري سيُستخدمان في المستقبل المنظور كمعيار لتحديد حجم القوّة العسكريّة التي تملكها الدولة. وعلى هذا الأساس فإنّ التمييز بين الدول لن ياخد بعين الاعتبار عدد أفراد الجيوش، بل على أساس مدى التقدّم أو التخلّف في تصنيع نوع جديد من الأسلحة التي من ضمنها الطائرات بلا طيّار.

فالتكنولوجيا الحديثة استطاعت أن تُفرز عاملاً جديدًا في إعادة ترتيب مكانة الدول في سلّم القوى الدوليّة بفضل  اختراع الطائرات بلا طيّار كتقنية قتالية في الحرب اللاتماثلية، والتأثير في النظام الدولي من دون أن تكون مُتفوِّقة عسكريًا بمعايير الدول الكُبرى أو في مصافِها؛ كون حرب اليوم لم يعد بطلها العسكري" الجندي"بل الذكاء الاصطناعي والطائرات دون الطيار التي أصبح امتلاكها أمرا ضروريا لكل الجيوش ما يفسر التنافس والسباق بين الدول لاقتناء وتطوير هذه التقنية كالولايات المتحدة؛ وروسيا؛ الصين. وإسرائيل وإيران.

مثلان يؤكِّدان ذلك حيت تستخدم «إسرائيل» هذا النوع من الطائرات، التي يُطلق عليها الفلسطينيّون إسم «الزنّانة» واللبنانيّون «أم كامل»، لضرب «مواقع مشبوهة» أو استهداف أفراد حركات المقاومة وكوادرها في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة ولبنان. واستخدمت هذه الطائرات على نطاق واسع في حربيْ «إسرائيل» على لبنان العام 2006 وقطاع غزّة لعاميْ2008 و 2009. كما استخدمت وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (CIA) هذا النوع من الطائرات في أفغانستان وباكستان والصومال والعراق واليمن لقصف مواقع حيويّة فيها من الجو ومُلاحقة أفراد تنظيم القاعدة على أراضيها. ومن المُتوقَّع أن يستمرّ استخدام الطائرات بلا طيّار في مجال الاغتيالات ويتوسَّع في المستقبل القريب إلى ضرب المواقع الإستراتيجيّة في أيِ من الحروب القادمة، المُعلنة أو غير المُعلنة (أي الحرب الناعمة). وبصرف النظر عن المواقف السياسية والعلاقات الدبلوماسية، فإن مسألة استخدام الطائرات بدون طيار تستدعي مناقشة قانونية حول مدى مشروعية استخدامها ومدى مواءمتها مع قواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني والأطر والمعايير ذات الصلة بسير النزاعات المسلحة.

تمنع القوانين الوطنية لغالبية دول العالم استخدام الطائرات بدون طيار، وهي طائرات غير متاحة إلا في عدد قليل من دول العالم، واستخدامها يقتصر على الدول فقط مع بعض الاستثناءات، ويرجع السبب إلى كون هذا النوع من الطائرات اخترع في الأصل للاستخدام لأهداف عسكرية وشبه عسكرية، قبل أن يتطور استخدامها في المجالات المدنية، بما فيها التصوير الفوتوغرافي والاستطلاعات وإنجاز الأفلام الوثائقية وحتى السينمائية، لكن في السنين الأخيرة لوحظ استخدام هذه الطائرات بشكل أكبر، ولاسيما على مستوى مراقبة الحدود، والتجسس أحيانا لدول على دول أخرى، وهو الأمر الذي يطرح معه سؤال المسؤولية الدولية عن هذا الفعل، وهل يشكل فعلا غير مشروع في نظر القانون الدولي، يوجب معه تحريك المسؤولية الدولية للدولة الصادر عنها هذا الفعل    

ما من شك أن كل دولة مستقلة تتمتع بالشخصية القانونية الدولية، لها سيادتها على إقليمها، ويشمل إقليم الدولة وفق القانون الدولي، إقليمها البري والبحري والجوي، وهو ما يستتبع أن الدولة لها كامل الصلاحية في فرض سلطتها على الإقليم بما يشمله ذلك من مراقبة الحدود، وذلك في نطاق احترام أحكام القانون الدولي والعلاقات الدولية، وينتج عن هذه المسألة أحقية الدولة في التصدي ومواجهة أي خرق غير مشروع لحدودها سواء البرية منها أو البحرية أو الجوية، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية لرد الخرق في نطاق دائما أحكام   القانون الدولي والشرعية الدولية المتمثلة في ميثاق هيئة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن.  

إن انتهاك السيادة يشكل بحد ذاته فعل غير مشروع، ويترتب عنه إثارة المسؤولية الدولية، من منطلق مبدأ تقرير المسؤولية عن الأفعال غير المشروعة دوليا، الذي تم إقراره على مستوى القانون الدولي كمبدأ أساسي من المبادئ العامة للقانون الدولي، وهو المبدأ الذي ورد في المشروع النهائي للجنة القانون الدولي حول المسؤولية الدولية و الذي نص في مادته الأولى على أن "كل فعل غير مشروع دوليا تقوم به الدولة يستتبع مسؤوليتها الدولية"، وأضافت المادة الثالثة من المشروع أن "وصف فعل الدولة بأنه غير مشروع دوليا أمر يحكمه القانون الدولي، ولا يتأثر هذا الوصف بكون الفعل ذاته موصوفا بأنه مشروع في القانون الداخلي".

إن الفعل غير المشروع  يشكل الأساس القانوني لإقرار المسؤولية الدولية وإذا كان هذا المعطى القانوني يعتبر بديهيا في حالات الخرق التي تمس الدولة حيث يتبين مصدر الخرق ومن يقف وراؤه، فإن الأمر بالنسبة لحالات استخدام الطائرات بدون طيار تطرح صعوبة وإشكال قانوني حقيقي، فقد يتم خرق حدود الدولة بواسطة هذه الطائرات التي قد لا تعرف جنسيتها في غياب طيار يقودها، وفي غياب أي معلومات حول مصدرها، خاصة وأن هذه الطائرات يمكن برمجتها وتوجيهها عن بعد بمئات الكيلومترات، ومن هذا المنطلق تنبع خطورة استخدام هذه الطائرات لأهداف غير مشروعة كالقتل المستهدف ، والمأزق القانوني الذي يواجه إثارة المسؤولية الدولية عن هذه الأفعال

غير أن هناك توجه دولي تقوده منظمة الأمم المتحدة نحو إدانة الاستخدام المتكرر للطائرات بدون طيار، فحجَّة الإرهاب التي كانت تتذرع بها الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبره ردّا مشروعا على هجمات 11 سبتمبر/أيلول لم يعُد سدًّا منيعا يحمي الدول من الإدانة عند اللجوء إلى القتل المستهدف. والتذرُّع بالخطأ التقني، الحاصل للطائرة بلا طيّار عند تنفيذ مهماتها (أي قيامها بالاغتيال)، لم يعُد وسيلةً للتهرُّب من المسؤوليّة الدوليّة. وعالم اليوم لم يعد بإمكانه السكوت أكثر عمّا يجري من عمليات قتل فرديّة أو جماعيّة ومسألة مُحاسبة من ارتكب مثل هذه الفظائع، وإنزال العقوبات المُناسبة به، صارت في مقدِّم اهتمام منظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني.

وفي هذا الصدد اعتبر كريستوف هاينز مقرر الأمم المتحدة الخاص بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء خلال مؤتمر عقد في جنيف منتصف عام إن سياسة الإدارة الأمريكية في استخدام الطائرات بلا طيار تهدد أسس الأمن والسلم الدوليين وتشجع دولا أخرى على الاستخفاف بمعايير حقوق الإنسان وضماناتها الدولية وقد المح إلا إن بعضها قد يرقى إلى جرائم حرب دولية. 

وجدير بالذكر أن الدول لم تتمكن حتى الآن من الاتفاق على وضع قانون خاص لهذا السلاح الرهيب حيت  كانت الدول تنفر دائمًا من قضيّة التنظيم لأنها تُريد، كما يبدو، أن تبقى طليقة من كلّ قيد لتتصرَّف في حروبها المُقبلة بكلّ حريّة وتستعمل أنواع الطائرات بلا طيّار التي تختارها.

إلاّ أنّ عدم تنظيم استعمال الطائرات بلا طيّار لا يعني تركها لمشيئة المُحاربين، فهناك أحكام عامّة تفرضها قواعد الأخلاق الإنسانيّة ومبادئها وتُطبَّق على أيِّ عمليّة حربيّة، جويَّةً كانت أم بريَّةً أم بحريَّةً. وهناك أيضًا نصوص مُدوّنة بشأن الحرب الجويّة والبريّة والبحريّة تُلائم طبيعة حرب الطائرات بلا طيّار ويُمكن أن تُطبَّق عليها. واستنادًا إلى هذه الأحكام والنصوص نستطيع أن نتحدَّث عن القواعد المهمّة لحرب الطائرات بلا طيّار. فاللجوء إلى مثل هذه لا بدّ، إذًا، أن يكون مُتوافقًا، بدايةً، مع حق اللجوء إلى الحرب (أي الحالة التي يُسمح فيها للدولة باستعمال القوّة Jus ad bellum) ، كما يجب أن يكون استعمالها، بعد ذلك، مُستندًا إلى حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني (أي القانون الذي يُنظِّم حالة الحرب Jus in bello).


 إنّ الغرض من الحرب، بشكل عام، هو قهر قوّات العدو وإجبارها على التسليم، ولذلك فإنّ الوسائل المُستعملة يجب ألاّ تتعدّى هذا الغرض فتصل إلى الأعمال الوحشيّة. وقد حدَّدت الاتفاقات الدوليّة، بشكل عام، وسائل العنف المشروعة وغير المشروعة.

تشمل المعاهدات الرئيسية التي تضع قيودا على أساليب ووسائل شن الحروب اتفاقية لاهاي لعام 1907، والبروتوكولين الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف لعام 1977 ومجموعة من الاتفاقات المتعلقة بأسلحة معينة. وكانت اللجنة الدولية قد شاركت في عملية صياغة النصوص القانونية المتعلقة بهذا المجال.
ويحظر القانون الدولي بصورة عامة الوسائل والأساليب التي تتسبب في إصابات مفرطة أو معاناة لا مبرر لها. ولا يجيز نتيجة لذلك استعمال أنواع معينة من الأسلحة ويقيّد طريقة استعمال أسلحة أخرى.

ولو اعتبرنا أنّ القواعد العامّة للقانون الدولي تُطبَّق (أو يجب أن تُطبَّق) على الطائرات بلا طيّار، لأنها قواعد عالميّة، فإنّ التطوّرات والإنجازات العلميّة الحديثة باتت تفرض إمّا إجراء عمليّة تحديث لهذه القواعد، وإمّا وضع نظام قانوني جديد، كفيل بمُواجهة المُستجدّات والتكيُّف مع التقدُّم العلمي المُرتقب وتحديد الحقوق والالتزامات للدول التي تستخدم الطائرات بلا طيّار وإيجاد الحلول للمُشكلات الخاصّة المُعقَّدة التي تطرحها ظاهرة «القتل المُسْتَهْدَف» وضرب مواقع العدوّ الحسَّاسة من الجو بشكل مُباغت من دون معرفة هويّة الدولة المُعتدية


الدكتور محمد الجناتي

طنجة





                                                                                                                                                                                                                                                   


      













  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: الدكتور محمد الجناتي: الطائرات المسلحة بدون طيار من منظور القانون الدولي Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top