في غضون فترة قصيرة حصد الموت رفاقا لنا تباعا:الرفيق محمد بلمقدم و ر.حسن السوسي و ر.مصطفى محسن و ر.أحمد طليمات..و قبل هذه الثلة الطيبة خطف لنا الرفيق عبد السلام المودن و الرفيق عبد السلام الجبلي و الرفيق عبد السلام الحيمر والرفيقة المغناوي مليكة و ر.عبد الله السعيدي و ر. محمد بن الطاهر..
هل الموت سيء إلى هذه الدرجة ؟ أم هو يخبط خبطة عشواء لا يلوي على أحد ؟ ليست عشوائية هذه الخبطات التي أصابت رفاقنا من تيار واحد وطينة واحدة دفعة واحدة . هذا النعي أملته "قشعريرة فكر تجلى له الموت على قمة العدم فأضاء للذات السبيل للكشف عن الحياة المليئة و هي تنبع من عين الوجود ، و ها هي ذي تلك الطريق إلى سدرة المنتهى ، حيث تلتقي ذروة البقاء بهاوية الفناء"( الموت و العبقرية . عبد الرحمن بدوي .دار القلم .1945)
هل للموت مشكلة مع الرفاق ؟ يميز بدوي بين إشكالية الموت و مشكلة الموت الأولى هي تناقضات الموت ومفارقاتها وتساؤلاتها والاندهاش منها والثانية هي محاولة تفسير وإيجاد حل لهذه السمات. والحال نريد فهم إشكالية الموت و علاقتها بالرفاق.
هؤلاء أناس طيبون . نذروا أنفسهم لا لتحقيق مآربهم ومصالحهم الفردية الضيقة بل لتحقيق سعادة الناس البسطاء كلهم و ضحوا بالنفس والنفيس "لأجل العمال والفلاحين والطلبة". فقط أرادوا الخلود هنا على هذه الأرض الطيبة ، فخذلهم الموت. هو نفس القهر الذي عرفه جلجاميش و صديقه أنكيدو و نفس الدحر الذي عانى منه توت عنخ آمون و أوزيريس.
منذ الأزل انبرى الموت كشبح مخيف واصطلى في جوهر الأشياء و سكن . فكانت برامج الرفاق سواء الإيديولوجية منها أو السياسية موجهة ضد الموت في الحقيقة .. الخصوم و الأعداء كما عينت و سميت في هذه البرامج ما هي سوى تعلاّت و ذرائع للعدو القاهر الموت.
هو دوما حاضر في خفيته و تستره .. يرمقنا من خلال ثقب الجزمات أو من خلال قطرات المطر من سقف منزل عتيق مهترئ أو من خلال دموع الفقراء .رفاقي الذين هلكوا ، جلهم كانوا يعرفون هذا الاختلاس و يدركون نظرات الموت هاته الشرزة ..اختبروها في السجون و في اقبية الموت و رأوها في فتلات جلد السوط و صعقات الكهرباء و ذاقوا مرارتها في عزلتهم و برودة فراشهم أو ما يشبه الفراش من حيث هو التحاف الإسمنت .. كانت لهم صداقة و رفقة دائمة مع الموت . و مع ذلك غدر بهم.
فيهم من خانته قواه العقلية و تحول نور العقل لديه إلى ظلام كاحل .. و فيهم من أوشت به خفافيش الظلام قائلة "هذا هو الرجل"و صار كالمسيح رغم بشرته السوداء .. و فيهم من كان يتحول إلى عامل مياوم في الأندلس ليتمرس على حالة البروليتاريا متجاوزا حالة البورجوازية الصغيرة .. و فيهم من كان في الظل حتى يضمن استمرارية التنظيم ووحدة الدم وثخانته.. لكنهم كلهم صادقوا الله فيما عاهدوه واستمروا كذلك إلى آخر رمق رمقنا به الموت في شكله الجديد.
كان الموت في عيون الليالي الباردة بالأرياف .. أو في سهود الليالي الساهدة بسيدي علي بوسرغين ( حيث خلت ذات ليلة جيمس براون بصوته الصارخ المجيد يشيد بنساء العالم.) هل كان كل ذلك من أشباح الموت؟
يقول بدوي في توصيف الموت:"فإذا أردنا الآن أن نطبق هذا ـ يقصد الأوصاف ـ على الموت و جدنا أنه يتصف أولا بصفة الإشكال . من الناحية الوجودية يلاحظ أولا أن الموت فعل فيه قضاء على كل فعل ، و ثانيا أنه نهاية للحياة بمعنى مشترك : نهاية النضج و نهاية الوقف ( وقف النضج) وقد يكون إمكانية معلقة مضاعفة ، لا بد ان يقع يوما ما و لا نعرف متى و هو مطلق كلي عام و نسبي جزئي شخصي في آن واحد.
هذا الاستغلاق للموت حين يفتح لا راد له. وهذا الالتباس لبس رفاقنا و واراهم الورى . لكن لماذا هم بالضبط و في هذا الوقت ؟ هناك العديد من المواطنين بل الآلاف منهم يتمنون الموت و هناك من الموت أرحم إليهم من الحياة . ترك كل هؤلاء و أصاب من تحتاجهم الحياة وهم عناصر حيوية لهاالموت شر . و الحياة خير ."و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم" صنع اله الخير و الجمال فلم خلق الشر والقبح؟ يبدو ان الحياة ( و تجريدا الوجود ) لا تستقيم إلا بالثنائيات المضادة : الحياة ـ الموت ، الجمال ـ القبح ، الذكر ـ الأنثى ..و بما أن التناقض هو أساس الحركة و الحياة و التفاعل و التجاذب و التنابذ و التقارب و التباعد ..كان لزاما الاحتفال بهذا المحرك. يقول ماو تسي تونغ :"لما يموت أحد من أحبائنا ، يجب أن نفرح لذلك .لأن التناقض يحقق صيرورته." لو كان الوجود خال من التناقض لكان رتيبا عبثيا بغيضا. فقط لأننا لا نقوى على الفراق و اعتدنا الحياة ننسى الموت . أما الموت فهو الحياة ، هو الجهة الأخرى من الحياة .. ماذا لو قدر لنا أن نرى ما في الجهة الأخرى ؟سنكون آنذاك في عداد الهالكين . الجهة الأخرى للأنا هي الهو و غياهبه و الجهة الأخرى للحقيقة هي الوهم و سرابه و الجهة الأخرى للحياة هو الموت و مجاهله و الجهة الأخرى للموت هي الحياة و ما فيها .هل الثقوب السوداء هي بينية كل هذه الجهات ؟فقدان العقل و فقدان الحق و فقدان الحياة كلها ميتات ماحقة . بهذه التوصيفات للموت لا يمكن الحديث عن القصدية إلا في معناها الفينومينولوجي "الموت يقصد دوما موضوعا ما"لكن من حيث هو هذا الموضوع بالذات ؟ فلا يقصده إلا من حيث هو موضوع بلغ مقصده.رفاقي كذوات أنجزوا مهامهم ..لكن كموضوعات أنجز نهايتها الموت . كونهم ماتوا تباعا جاء صدفة و هذه الأخيرة قانون في الموت لأن الخبط سواء كان عشواء أو شعواء هو هو .."فمن لم تصبه يعمر و يهرم".
"هيا رفاقي آن الأوان و حان أن نفترقا
هيا أهتفوا معي إلى اللقاء إلى اللقاء....."