04‏/12‏/2020

لم تنتهك الدولة الحياة الخاصة للشعب؟


الحياة الخاصة مقدسة، لا تنتهك من أية جهة نظريا وعمليا.

 هذه خلاصة تجربة الدولة الديمقراطية الحديثة.

ومما جاء في دستور المملكة المغربية لسنة2011 :

" لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة، لا تُنتهك حرمة المنزل، ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون، ولا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها، ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلا أو بعضا، أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي، ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون”.

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يتم احترام هذا البند من الدستور؟

يفترض في السلطات في المغرب حماية الحياة الخاصة، والحياة العامة. بنص وروح ومنطوق ومفهوم الصك الدستوري ذي الصلة.

كما أن السلطات المغربية ذاتها ،مطالبة ،دستوريا ، بردع كل من خولت له نفسه المس، سلبا، بالحريات الفردية والجماعية. سواء كان شخصية ذاتية أو شخصية معنوية. بما فيها أية سلطة/مؤسسة غير قضائية.

الخطير في الموضوع هو عدم متابعة وسائل الاعلام والإتصال وصفحات شبكات التواصل الإجتماعي التي تشهر بالحياة الخاصة للناس بمعطيات صحيحة أو مفبركة. فلا يحق لها قانونا نشرها حتى ولو كانت صحيحة. لأن في ذلك مس بقدسية الحياة الخاصة. 

لكن وللأسف، انتشرت في السنوات الأخيرة مواقع الكترونية مختصة في استهداف المعارضين للسلطة والمدافعين عن حقوق الإنسان، ويبدو أنها محمية ولها نفوذ، وباسم الدفاع عن الثوابت والمقدسات تشرعن لنفسها حق السب والقذف والتشهير بالناس ونشر تفاصيل حياتهم الخاصة، وفبركة الفيديوهات، ونشر الأخبار الكاذبة المضللة، ونشر صور ولقطات مقززة وتفاصيل مملة لجرائم الحق العام. بحثا عن أكبر عدد ممكن من المتابعين، لجني الأموال المتحصلة عن الإشهار الإلكتروني. وبحثا في الوقت نفسه عن رضى الجهات التي تحميها وتمولها وتقف وراءها.


كما أن وسائل الإعلام العمومي لا تحترم بدورها، وفي الكثير من الحالات الحياة الخاصة، ولو كانت للمجرمين، وهنا نذكر ببرامج عن "أخطر المجرمين" الذي كانت تبثه دوزيم وميدي آن تيفي. 

ولازالت وسائل الإعلام العمومي الى البوم تعتدي على الٱطفال، بواسطة الوصلات الإشهارية. او عبر  نشر مشاكل خاصة جدا للأسر .

والحال أن المحاكم تبث فيها بكيفيات لا تجعل الجلسات عامة لحماية الطفولة والأسر من تبعات التشهير بحياتها الخاصة. وانعكاسات ذلك المحتملة على حياتهم النفسية والعاطفية. ومراعاة لمصلحتهم الفظلى. وضمانا لحقهم الدستوري في حماية الحياة الخاصة.

كما أن برامج تلفزية أخرى تستغل الأطفال في فكاهة سمجة لزيادة عدد المشاهدين. والضحك على الذقون كما يقال، وليس ببعيد عن هذا ما يروجه برنامج "رشيد شو"، من استغلال فج وبذيء لبراءة الأطفال والتعامل معهم كعرائس الدمى لاستجلاب الضحك والسخرية من أي شيء يصدر عنهم، إماءات ،إجابات، ضحكات بريئة...الخ

هذا دون الحديث عن برامج إذاعية مختصة في نشر غسيل الحياة الخاصة والحميمية لأفراد العائلات التي تعاني من مشاكل خاصة جدا. وهي مشاكل يمكن حلها في المحاكم أو في مستشفيات وعيادات الطب النفسي والعقلي. وتنتشر هذه الظاهرة في الإذاعات الخاصة كثيرا.

التشهير وسيلة لقمع الحريات

والمثير في الموضوع، وارتباطا بعدة نوازل، آخرها ما حدث لوزير سابق ورئيس حزب. ونقيب محاماة سابق. بعد أن تعرض لتشهير بين ومبرح من قناة موقع الكتروني محسوب على الدوائر التي من مصلحتها إسكات من يختلف مع توجهات السلطة السياسية. من إعلاميين وحقوقيين وسياسيين.

وحول هذه النازلة لا بد من إبداء بعض الملاحظات السريعة. 

لقد نفى المحامي محمد زيان صحة الفيديو الذي نشره موقع "شوف تيفي"، الذي يظهر عاريا من المؤخرة، خارجا لتوه من الحمام. وقال إنه سيعتمد على مختبر أمريكي لتأكيد زيف الفيديو المفبرك..وسيحيل الملف على المحكمة المختصة.

في رأيي المتواضع، فالمطلوب من النيابة العامة فتح تحقيق حول مصدر الفيديو، وصحته، ومدى احترام أخلاقيات مهنة الصحافة من طرف ناشريه ومروجيه على مواقع التواصل الإجتماعي.

وعلى القضاء كسلطة مستقلة أن يبث في النازلة على وجه الإستعجال. وتأكيد أو نفي كون السلطة التنفيذية مارست شططا في استعمال السلطة ضد مواطن كامل الأهلية، بغض النظر عن صحة الفيديو من عدمه. 

فقطاعات واسعة من الرأي العام تتجه نحو اتهام السلطة التنفيذية بتصوير أو فبركة الفيديو الخاص بمحمد زيان ونشره بهدف التشهير. والمس بحياته الخاصة. انتقاما منه.

وزيان نفسه يتهم مباشرة جهاز الأمن بالتشهير به لقمع حرية الراي والتعبير. ويتعهد، أمام الرأي العام، بعدم ركونه الى الصمت وفضح مايسميه" الفساد والمفسدين" الا في حالة "قطع رأسه". وطالب ساخرا في فيديو مباشر على اليوتيوب بتصويره مع "معزة". ولم يخف اقتناعه بالدوافع السياسية التي تقف وراء التشهير به.

ويعيد ملف فيديو زيان الحديث عن وضعية حقوق الإنسان في المملكة. ودور أجهزة الأمن في الحالة السياسية الراهنة. وهذا نقاش آخر.

وحتى لا نصدر أحكاما متسرعة، فالمطلوب من السلطات تنوير الرأي العام، وعدم الركون الى الصمت المريب.


من أجل نقاش عمومي حول الحياة الخاصة


وهذه مناسبة لفتح نقاش عمومي حول  التشهير ومفهوم الحياة الخاصة ومعنى قدسيتها كثمرة من ثمار الحداثة. 

فالدولة الديمقراطية لا يمكن أن تكون ديمقراطية الا إذا سهرت على صون الحياة الخاصة للمواطنات والمواطنين. بما فيها حرية التدين والزواج والعلاقات الجنسية، واللباس، والعقيدة، والهوايات، والابداع الفني، وكل ما يرتبط بحرية التعبير عن "الأنا" و"الهوية الشخصية",  بما لا يتعارض مع القانون الدولي...الخ

وندخل السلطات الثلاث لحماية الحياة الخاصة. وفي الحالة المغربية خصيصا، لا يمكن أن يكون مشروطا بانتفاءو انقراض النزعات المحافظة في المجتمع.، والتي تؤول الدين أو تقاليد القبيلة والمجال الترابي لتبرير الإعتداء على الحريات الفردية الخاصة، نظير تجسس الجيران على الجيران، وندخل بعض الأشخاص في الحياة الخاصة لأشخاص آخرين مستغلين قرينة الجوار أو القرابة الدموية..أو سلطة أو نفوذ. يزوجون ويطلقون ويتاجرون في البشر. فهذه الظواهر لن تنقرض الا بتدخل الدولة التطبيق التشريعات والقوانين التي ينص عليها الدستور نصا وروحا.

والحال، المثير للقلق، أن أجهزة الدولة نفسها متورطة في التدخل والاعتداء على الحياة الخاصة للمواطنين. وراكمت في ذلك تاريخا سيارا من الممارسات والتواطؤات مع البنيات التقليدية للمجتمع، مما جعل دعاة حماية الحياة الفردية من اشخاص ومنظمات في مواجهة مع المجتمع بتحريض من أجهزة الدولة. بل أحيانا في مواجهة الدولة مباشرة. وليس موضوع الإفطار في رمضان ببعيد عنا أو ملفات عبدة الشيطان وغيرها.

ويمكن التدليل على هذا التوجه المخل بالدستور بثلاثة أمثلة، وليس حصرا لأن ذلك يحتاج الى دراسة معمقة:

 1-  مشاهد توقيف الشرطة لزوج العشاق في الشارع العام واقتيادهم الى مخافر الشرطة كمتلبسين بالرذيلة والتهمة جاهزة.

2- كما أن بعض المحققين من ضباط الشرطة القضائية يسألون عن الحياة الخاصة، وهي أسئلة  لا تتعلق بموضوع التحقيق القضائي. ولا يدونون ذلك في محاضر الإستماع. أما في سنوات الرصاص فلم يكن هناك لا حسيب ولا رقيب. فهم يستغلون الحياة الخاصة لنزع اعترافات بالقوة. مثلا يخيرونك بين الاعتراف أو اغتصاب إحدى قريباتك: زوجتك, امك، أختك.

3-  سلوك الشيوخ والمقيمين والعريفات الذين يتصرفون وكأن الحياة الخاصة للمواطنين ملك لهم، والتدخل فيها هو السبيل الوحيد للوصول الى المعلومات التي تحتاجها وزارة الداخلية في عملها اليومي لضبط مفاصل المجتمع ومعرفة ما يجري ويدور. 

فعناصر جهاز الشيوخ والمقدمين والعريفات تقتحم منازل المواطنين بسبب أو بدون سبب، بالرضى أوالموافقة أو بغيرها. ويحضرون الولائم والمآتم ، والأعراس بدون استدعاء من المنظمين. 

 "وقد يضبط مواطن أحدهم في سطح منزله أو العمارة التي يقطنها ، ويكتفي بإخطاره بأنه مقدم أو شيخ."

وويل له إن"بكى أو اشتكى". فمطبخه بين يدي الباشا.

كما يستغلون أي احتكاك معهم ليسألوك عن تفاصيل حياتك الخاصة، ويطلعوك أنهم يتابعون الوضع النفسي والاقتصادي والجنسي، والأنتروبولوجي والفضائي والبحري والبري لعائلتك النووية والقبلية والمهنية، وكل ذلك عن كثب. ساعة بساعة، ف"عين المخزن لا تنام، ويده طويلة". 

لهذا يجب إعادة إحياء مطلب "الكتلة الديمقراطية" في 1994 القاضي بإحداث "المجلس الاعلى للمقدمين والشيوخ" .، كخطوة إصلاحية أولى، لتحديد اختصاصاتهم بدقة وتكوينهم قانونيا، وتحديد حقوقهم المهنية والإجتماعية كموظفين عموميين. ووضع حد للوضعية الحالية التي تجعلهم يتدخلون في "كل شيء" وضمنه الحياة الخاصة للمواطنين باسم السلطة التنفيذية التي لا يخول لها الدستور هذا الحق.

وبناء عليه، نستخلص أن الدولة نفسها متورطة في مس الحياة الخاصة للمواطنين، وبشكل ممنهج. وتستغل انتشار ظاهرة التدخل في الحياة الخاصة من طرف بعض أفراد المجتمع، للتطبيع مع الأمر وتوظيفه لمواجهة معارضيها وتشويه سمعتهم وتفجير عائلاتهم لعزلهم عن المجتمع، والقضايا النبيلةالتي يناضلون من أجلها، والتقليل من مصداقيتهم أمام الرأي العام و"تتريكهم" في النهاية إذا لزم الأمر. 

لذلك صار التشهير والمس بالحياة الخاصة وسيلة لقمع حرية الرأي والتعبير.

الدستور يقول شيئا، والواقع يقول شيئا آخر. وهذه من المفارقات العجيبة التي تعيق تقدم الديمقراطية في المغرب.


اسماعيل طاهري


  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: لم تنتهك الدولة الحياة الخاصة للشعب؟ Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top