توفي الكاتب والأديب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا عن عمر يناهز 94 عاماً، أمس الثلاثاء في مدينة برنو التشيكية، حيث وُلد، لتكون محطته الأخيرة بعد سنوات من النفي.
بعد ان انهى دراسته عام 1952في جامعة تشارلز في براغ حيث درس علم الموسيقى والسينما والأدب وعلم الأخلاق.عمل بعدها أستاذ لمادة الأدب العالمي في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية.نشر في عام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظَ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف كونديرا ككاتب مهم إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى «غراميات مضحكة».في هذه الفترة نشر شعراً ومقالاتٍ ومسرحياتٍ والتحق بقسم التحرير في عدد من المجالات الأدبية.كما التحق بالحزب الشيوعي في عام 1948، وتعرض للفصل هو والكاتب جان ترافولكا عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليهما، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب،ثم فُصل مرة أخرى عام 1970.
برع كونديرا في مزج أجواء مأساوية بروح كوميدية في تحليله للفرد الذي يحيا في أنظمة استبدادية. وإلى حدٍّ ما لعبت هذه الكوميديا السوداء دورها في جذب القرّاء لرواياته، منذ روايته الأولى "المزحة" او "النكتة"التي صدرت عام 1967، وهي الرواية التي تمّ حظرها في بلاده،بينما جعلته أيضاً مشهوراً في وطنه،فقد كونديرا وظيفته عام 1968، بعد انخراطه فيما سُمّي ربيع براغ،مما اضطره للهجرة إلى فرنسا عام 1975 بعد منع كتبه من التداول لمدة خمس سنوات، وعمل أستاذا مساعداً في جامعة رين ببريتانى (فرنسا)، رين المدينة التي وصفها بـ«المدينة البشعة حقاً». وكان يُدرّس الأدب المقارن في جامعتها كأستاذ زائر. وفي عام 1979 وقع عليه الاختيار للتّدريس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، فانتقل إلى العاصمة.
تحول من الشيوعية إلى نقيضها،لكنه كان صاحب فكر حر، فاتسعت شقة الخلاف تدريجيا بينه وبين السلطات التشيكوسلوفاكية، واتخذ قرارا بالانتقال للعيش خارج بلده بعد سحق حركة "ربيع براغ" الإصلاحية عام 1968 بتدخل من الاتحاد السوفياتي.
وجُرّد من جنسيته عام 1979 بعد 4 سنوات من مغادرته بلده مع زوجته فيرا التي كانت نجمة في مجال تقديم البرامج على التلفزيون التشيكي،للإقامة في فرنسا، كنتيجة لكتابته كتاب "الضحك والنسيان". كما تعرّض للملاحقة خلال حكم النّظام السّابق في تشيكوسلوفاكيا، بعد طرده من الحزب الشيوعي من صفوفه، وتحول إلى الخروف الضّال في عرف مثقّفي النّظام،وظلّت صورته ككاتب منشق على النظام الشمولي في بلاده،وبعد تقدمه بطلب للحصول على الجنسية الفرنسية عام 1981،بادر الرئيس فرنسوا ميتران، إلى منحها له.
تحت وطأة هذه الظروف والمستجدات في حياته، كتب كونديرا روايته الشهيرة "كائن لا تحتمل خفته"، التي جعلت منه كاتباً عالمياً معروفاً لما فيها من تأملات فلسفية، تنضوي في خانة فكرة العود الأبدي الذي استعاره من نيتشه من خلال فكرة التكرار في التاريخ، كما طرح تساؤلات حرجة حول الحب والوجود والألم.فهي قصة تراجيدية عن الحب والنفي.وتحولّت إلى فيلم سينمائي من إخراج فيليب كوفمان عام 1988،وقد طرح خلالها مفهوم العَود الأبدي الذي استعاره من نيتشه من خلال فكرة التكرار في التاريخ، كما طرح تساؤلات حرجة حول الحب والوجود والألم.
ظل كونديرا يتخبط في براغ وهو خارجها، يقرأ العالم كله عبرها، بل يقرأ نفسه والآخر الفرنسي الذي احتضنه عبرها، وظل يحمل ذلك التمايز بين التشيك البلد الذي ينهار في ذهنه، لأن المجلات الأدبية منعت فيه، وبين فرنسا التي تجلس أمام التلفزيون مساء غير مهتمة باختفاء المجلات فيها.
ويمكن تفسير ذلك عبر ربط الفكرة بقصة ربيع براغ الذي رآه نتاج حركة ثقافية أساسها المسرح والسينما والفلسفة والأدب، فهذه التعابير الثقافية هي التي مهدت لحدوث هذا الربيع، فـ"كان منع مسرحية لميكيوفيتش -وهو شاعر بولندي رومنسي- سببا في اندلاع انتفاضة الطلبة.
في فصل بعنوان "الغرب مختطفا أو تراجيديا أوروبا الوسطى" يورد كونديرا موقفا غريبا ونقيض من الأدب الروسي، إذ يقرنه بالسوداوية والجنون، وفي مقابل ولعه بالأديب الفرنسي دنيس ديدرو يصرح بموقف مفاجئ من دوستويفسكي، فيقول أنا لست كاتبا من الشرق، وبراغ هي قلب أوروبا.ويرى كونديرا عالم اليوم عالما غير روائي، لانحسار السؤال فيه، فالكل يجيب ولا أحد يسأل،فالرواية حسب رأيه بحث عن وجود جزر وجودية جديدة وأشكال قول جديدة وطرح أسئلة جديدة، وتعليم "القارئ أن العالم سؤال"، ويبني نظريته على حكمة خروج دون كيخوته لمواجهة العالم، لم يكن الفارس دي لامنشيا سوى حزمة من الأسئلة خرجت في وجه العالم تحرج "يقينياته ومسلماته المقدسة"،ففي ظل هذه اليقينيات والحقيقة المقدسة -حسب كونديرا- "تموت الرواية"، أي أن الرواية لا يمكن أن تعيش إلا في الشك وفي عالم النسبية المطلق كما سبق أن أكد ذلك في كتبه.ويتهم كونديرا النقد بالفشل في التخلص من الجغرافيا، فـ"تحليل رواية ما في سياقها الوطني هو بالتأكيد شيء جيد ومفيد لكي نفهم الدور الذي لعبته في تاريخ شعب من الشعوب، لكن هذا لن يكون كافيا إذا ما نحن تناولنا هذه الرواية كعمل فني"
عام 1995انتقل إلى الكتابة باللغة الفرنسية
مباشرةً بعد تمكنه منها.وجعل منها لغة لسانه الأدبي من خلال روايته "البطء"، وكان مما قام به مراجعته وتدقيقه كل رواياته المترجمة إلى الفرنسية من قبل.
وعبّر كونديرا في مؤلفاته بسخرية عن حال الإنسان، وكان بين الكتّاب النادرين الذين ادرجت دار «غاليمار» الباريسية العريقة نشر كامل مؤلفاتهم، وهم على قيد الحياة، في سلسلتها الشهيرة "لابلياد" (La Pleiade) المرموقة في عام 2011، وتُرجمت أغلب أعماله إلى العربية.
نبغ في سنواته الأخيرة في فرنسا كناقد من خلال مؤلفاته "فن الرواية"، و"الوصايا المغدورة"، و"الستارة"، تلك الكتب التي خصصها للرواية الأوروبية من رابليه وسارفنتس إلى فرانز كافكا وهرمان بروخ، وقد أبانت عن موسوعية ثقافته بالرواية والموسيقى والفلسفة والتاريخ،
عام 2019 ذهب سفير التشيك لدى فرنسا، ليسلّم الكاتب الكبير، شهادة جنسية وطنه الأم التي كان محروماً منها،وقال السفير، إنّ ما قام به هو «عمل رمزي مهم جداً وعودة رمزية لأكبر كاتب تشيكي باللغة التشيكية». وقدّم السفير اعتذار شعبه للكاتب الذي تعرض خلال سنوات منفاه لكثير من حملات التشنيع..
وصدرت لكونديرا عندما كان لا يزال تشيكيا روايتان هما "الدعابة" التي أشاد بها الشاعر الفرنسي أراغون و"غراميات مرحة"
(Smesne lasky)،
تضمنتا تقويما مريرا للأوهام السياسية لجيل انقلاب براغ الذي مكّن الشيوعيين عام 1948 من الوصول إلى السلطة.
من أهم أعماله الأدبية:
"الضحك والنيسان" و"الخلود" ، و"البطء"، و"الجهل"، و"حفلة التفاهة" و Zert (“الدعابة”) وl’Insoutenable legerete de l’etre “كائن لا تُحتمل خفّته” و"الحياة هي مكان آخر" و"فالس الوداع"،ومجموعة قصصية بعنوان "غراميات مرحة" إلى جانب تنظيراته النقدية في أكثر من كتاب، ولا سيما "فن الرواية" وتُرجمت كتب كونديرا إلى عشرات اللغات وبيعت منها ملايين النسخ في جميع أنحاء العالم.وترشح مراراً للفوز بجائزة نوبل للآداب، لكنه لم يحقق ذلك.