20‏/05‏/2022

الشاعر والثائر والمهاجر الأبدي يحط الرحال.

⚫..



كانَ الكونُ مُعافىٰ ..

فلماذا أُنزلَ نعشُ الحُزنِ 

ليدفنَ في عافيَّتي؟

*مظفر النواب*


يرحل عنا الفينق المتمرد الشاعر الكبير إثر مرض عضال.في منفاه الاضطراري وهو في العقد التاسع من عمره، وداعا أبا عادل ها هو اليوم يفارقنا الاب والقديس العظيم الشاعر مظفر النواب ويترجل الى مملكة الخلود .. 

رحل عن عالمنا فارس الكلمة والمبدأ والموقف، لقد اغمض عينيه...وهو يقول:

"أَينَ سيذهبُ مَن لا بيتَ لهُ

ولا امرأةً وطناً..؟

سُبحانَكَ مهما بَلَغَ الطّائرُ

يتعَبُ مِن دونِ مطار .."

مند ريعان شبابه بات ناظما للقصائد في المرحلة الثانوية، وناشرا لها في الدوريات والمجلات الجدارية المدرسيّة.تمكّن النواب من صناعة شهرة أدبية لنفسه بكتابته الشعر باللغة العربية الفصحى إضافةً الى اللهجة العامّية المتداولة في العراق، معزّزا رصيد شهرته بانتقاده ومعارضته الأنظمة السياسية العربية عموما، والعراقية على وجه التحديد، وهذا ما جعله شريدا في المنافي في أغلب عقود حياته.تغللت مبادئ الشيوعية إلى العمق الفكري للنواب، فدفعته للانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي وقدّم تضحيات كبيرة في صفوفه ولا سيما بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، وبقي على ما كان عليه حتى عام 1963حين قاد القوميون انقلاب  في 8 فبراير واطاحوا بحكم عبد الكريم قاسم،

حيث  تعرض الشيوعيون واليساريون للقتل والتعذيب والاعتقالات، واضطر في تلك المرحلة إلى مغادرة بلده، متجها صوب إيران في طريقه الى الاتحاد السوفياتي،فألقت المخابرات الإيرانية القبض عليه وتعرض للتعذيب قبل أن يتم تسليمه الى السلطات العراقية. فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، لكن خفف الحكم إلى السجن المؤبد. وأمضى فترة فى سجن "نقرة السلمان" الشهير في محافظة المثنى جنوب العراق، ثم نقل إلى سجن الحلة الواقع جنوب بغداد، وهناك تمكن من الهرب حيث قام مظفر النواب ومجموعة من السجناء السياسيين بحفر نفق من الزنزانة يؤدي الى خارج أسوار السجن، فأحدث هروبه مع رفاقه ضجة مدوية في أرجاء العراق والدول العربية المجاورة،والاختفاء بجنوبي العراق حيث عمل في شركة هولندية، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم مرة ثانية بعد أن فُصل منها.لكن التضييق عليه دفعه الى اختيار المنافي..

تُعتبر قصيدة "قراءة في دفتر المطر" التي نظمها النواب عام 1969 أولى محطات الشهرة لديه، لينتقل بعدها إلى مساحة أوسع في عالم الشهرة عند الجمهور العربي بنظمه ملحمة شعرية حملت عنوان "وتريات ليلية" الّتي كُتبت خلال 1972-1975، مؤكدا فيها التزامه التامّ بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.ليشتهر بعدها أكثر في نظم الشعر السياسي المعارض والناقد للأنظمة العربية، دون أن تأخذه رحمةً بها بلجوئه إلى استخدام مفرداتٍ جريئة جدا، كما يقول في إحدى قصائده،واصفا حكام العرب بها "أولاد القحبة! لستُ خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم"، ليطلق عليه بعضهم لقب "الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي".فرضت قصائد النواب السياسية الهجائية عليه أن يكون "شاعر الغربة والضياع"، فهو نموذج للشاعر الملتزم كما أن قصائده رفدت المشهد الشعري العراقي والعربي بنتاجٍ زاخر تميز بالفرادة والعذوبة.

فعاش نحو 5 عقود طريدا بين المنافي العربية والأجنبية، متوزعا في أسفاره بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران وفيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، فضلا عن فنزويلا والبرازيل وتشيلي.

دأب النواب على تنظيم ونشر أمسياته الشعرية بالعواصم الغربية وتحديدا لندن، وألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية وانتفاضتها خصوصا ما بين 1987 و2000، والحثّ على مقاومة الاحتلال الصهيوني خاصة قصيدته "القدس عروس عروبتكم".

فلماذا أدخلتم كل زنات الليل الى حجرتها..

ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب 

لصرخات بكارتها...

وسحبتم كل خناجركم..

وتنافختم شرفاً...

وصرختم فيها ان تسكت صوناً للعرض...

فما أشرفكم أولاد القحبة...!

هل تسكت مغتصبة ؟

الراحل من أهم الأصوات الشعرية العراقية والعربية حيث تميز بغزارة إنتاجه مع إجادة واضحة ومقدرة فذة على تطويع اللغة وامتلاكه لمخزون جمالي لا ينضب ، مما مكنه من كتابة الشعر بكل أشكاله،وباعتبار انه أحد أشهر شعراء العرب في العصر الحديث،وضع قريحته الشعرية في خدمة الجماهير بل تنبع وتعبر عن صيحات الازقة والشوارع وما وراء القضبان والمختطفين والمنفيين،

فاضحى معارض لسياسية العمالة، وناقد للوضع الميؤوس منه،فدخل إسمه الى اللائحة السوداء بمطارات الانظمة العربية الاستبدادية،واصبح ملاحقا حتى وقد اشتد المرض عليه حيث يبوح من الأعماق"مُتعبٌ منّي ولا أقوى على حملي".. هكذا يختزل الشاعر العراقي مظفر النَّواب صراعه المرير مع المرض.إلتفت القدر أخيرا إلى النواب بنظرة عطفٍ وحنان، ليمهد له الطريق في ماي2011 وهو مصابٌ بمرض الشلل الرعاش بالعودة إلى بلده العراق بعد فراق عنه دام لأكثر من 40 عاما، متنقلاً في المنافي دون استقرار،لكن رياح الاستبداد والطائفية المقيتة جعلته يرحل الى المنافي مكرها لا بطلاقائلا:"ضُلوعي مَزاميرُ للحُزنِ .."

يُمثل الوطن المبتلى بالطغاة وبالدكتاتوريات وترهيب الشعوب مشكلة النواب، لذلك أصعب ما يمكن أن يمرّ به الإنسان هو الرحيل عن وطنه، فكيف بالشاعر، والنواب لم يغادر بلاده اعتباطا إنّما التضييق المستمر على تحركاته ونشاطه الوطني والقومي دفعه إلى الخروج، ليصنع من صوته وكلماته ملاذات هائلة للثورة.لو وجد النواب متّسعا صالحا للعيش في موطن طفولته وحياته لما غادر، ولظل مغروزا في تربته وطينه الأوّل، والمهم كما يقول هو: "للشاعر ألف جواز كي يصل القلب"،

يا ابا عادل يافارس الكلمة الشجاعة والمبدأ الثابت والموقف الذي لا يهادن،ايها الشاعر الأصيل الذي تتدفق قريحتك رصاصا على الخائن والعدو...

اختار مظفر دمشق آخر محطات تنقلاته مستقرّا لعزلته الأخيرة فمنحته أمانا واطمئنانا، فهي المدينة المعطاء، فضلاً عن تناغم أجوائها المنفتحة والمدنيّة مع روح الشاعر الشفافة، وقد أُذِن لصوته أن يكون حرّا صادحا، ليعبر عن مكنونات قصائده، فإن علاقة النواب بسوريا هي علاقة أصيلة متجذرة، تنتمي للحب بأبهى صوره...

من أشهر قصائد النواب: 

القدس عروس عروبتكم، وتريات ليلية، الرحلات القصية، المسلخ الدولي وباب الأبجدية، بحار البحارين، قراءة في دفتر المطر، الاتهام، بيان سياسي، رسالة حربية عاشقة، اللون الرمادي، في الحانة القديمة، جسر المباهج القديمة، ندامى، اللون الرمادي، الريل وحمد، أفضحهم، زرازير البراري.

"أُصابحُ الليلَ مصلوبا على أملٍ

أن لا أموتَ غريبا ميتةَ الشبحِ" هكدا علق على فنائه الجسدي،لكن روحك

ستظل بيننا وأشعارك ماثلة في ذاكرة الأجيال ،وسيظل اسمك خالدا في سجل تاريخ العظماء والعباقرة ...

*لروحك الرحمة والسكينة...

منقول عن فيسبوك/ حائط Majid Mosadak





  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: الشاعر والثائر والمهاجر الأبدي يحط الرحال. Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top