من أجل إصلاح عميق لابد من نقاش عميق ، فلا أحد يدعي أن النظام تغيرت طبيعته ، ولا حتى جوهر سلوكه ، فهو يتكيف تفاديا لأن يتحول ، وكيف له أن يتغير ، إيجابيا ، خارج العملية الدمقراطية ، والتي تقودها الجغرافية السياسية بأفق فكري محين ومستقل عن توابث القدرية التاريخانية ، المسماة تجاوزا بحتمية قانون الصراع ، وكأن الأمر مثل لدى للبعض بما يشبه بالجبرية القضائية التي لا تسأل السموات عنها سوى لطفا على طريقة كم من حاجة قضيناها بتركها .
قبل خمس سنوات بسطنا على الارض توجسنا كحقوقيين في صيغة تساؤل عن مصير " الدولة " الفكرة والعقل ؛ المفترضة كدولة لحظة ما بعد الصدمة ؟ خاصة بعد عقد ونصف من التجريب ، تجريب المفهوم الجديد للسلطة ، هذا التوجس الذي أكده " تحليلا " مؤرخ المملكة السابق السيد حسن أوريد ، والذي أفاد " أننا لا نتوفر على دولة وإنما مجرد إدارات تابعة للمخزن " .
وبعده قال المصطفى بوعزيز " انتقادا " أننا لم نعد نتوفر على « الوطنية » ،
وفي هذا الصدد قررنا ( آنذاك ) انتظار أن تتبلور لدى مهندسي العهد الجديد و" المعارضين " بعض الأفكار للتفاعل مع ما قيل لأنه مثير للسؤال و الرغبة في الحجاج قبل السجال ، نتساءل في ظل نمط حكم يسير شؤونه بشؤوننا ، هل نتوفر على حيوية حقوقية وثقافية لتساعدنا على تشكيل محصنات في أفق بناء ممانعة لدى هذه الأجهزة الإدارية / السياسية المعقدة ، كشخصيات اعتبارية ، لمواجهة تحديات العولمة السياسية والثقافية ، وكذا تداعياتها على مستوى تطبيق مشروع الشرق الأوسط العريض ؟
وقد راودتني ( حينئذ ) فكرة افتراض أن حسن أوريد على حق ، ولربما يقصد أننا لا نتوفر على دولة قوية ، أي إنها غير ضعيفة تجاه مواطنيها ، بمقارباتها الأمنية والمخيفة ، لكنها غير قوية بالشكل المتطلب لمواجهة تدفق وديان الإملاءات والقرارات الدولية . وبنفس الحس الوطني أستشعر موقف المصطفى بوعزيز ، فلربما هو يروم رد الاعتبار ، من خلال استفهامه الإنكاري ، للسيادة الوطنية ، وهو توجس يلتقي فيه ، المؤرخان معا ربما ، فالمخزن لديهم ، اهتزت قدراته التدبيرية الوطنية ، بل إن قسطا كبيرا من هذه القدرات يمتح من معين القرار الأمني المعولم .
كما انتابني ( منذ خمس سنوات ) إحساس عميق بأن التاريخ قد يعيد نفسه في شكل « تظلم حمائي » أو « مطلب مظلومية » ، أم نغامر بإبراز كل ما تم تخزينه من قوة للانخراط في المواجهة المباشرة ، ضمن قواعد لعب مؤطرة بمناورات تدليسية ، حيث تهزم الحيلة القوة وفق مقتضيات وتعاليم قانون « أمير » ميكيافيلي . هو نقاش ينبغي أن يكون تشاركيا مع الجميع ، بمن فيهم الفاعلين السياسيين الذين لا يؤمنون بوصايا « أمير » غرامشي ، والذين يتصيدون كل الفرص لإعادة تحقيق سيناريو خطايا الخيانات التي يجبها الغفران ، فيتحول الضحية جلادا والوطني خائنا .
هل لحظتنا ( العمومية ) لحظة تأمل لصدمة ما بعد الدولة ؟
نعيد ونحين السؤال ، ونحن على مشارف استكمال عقدين من الولاية المحمدية ، والتي أفضى تحليلنا بصددها أن العملية السياسية التي صاحبتها استنفذت ، واقترحنا على حلفائنا التفكير في بلورة جيل جديد من الإصلاحات !
و إذ نذكر أننا عشنا لحظة صدمة مع المؤرخ الذي نفى وجود دولة مغربية ، فهي في نظره مجرد جهاز لتسيير وتوجيه إدارات تقوم بوظائف محددة . قد نتفق ، وتساءلنا : أليست تلك الإدارة العليا هي الدولة ، مادام الرئيس المدير العام لهذه الإدارة العليا ( المسماة مخزنا منذ السعديين ) هو السلطان ، الذي اجتهدت الحركة الوطنية لتكييف شخصيته مع مطلب « عودة الشرعية » قبل « نيل الاستقلال » ، وبالتالي فضلوا لقب « ملك » لينسجم ، في آخر التحليل ، مع الدور التاريخي الذي لعبه الماريشال ليوطي ، كمهندس مفترض لمؤسس إرهاصات الدولة الحديثة ؟ لذلك فالدولة هي جهاز تدبيري للشأن العمومي ، بتملك القوة العمومية مفوضة من قبل المجتمع ، يؤطرها العرف أو القانون ، توج خضوعها للدستور الذي صيغ ، بعد إلغاء الحماية ، وكان مقتضيات حمالة أوجه ، عند التطبيق والتأويل ، وهما سلطتان مستمدتان من « الوضعي » اقترانا مع « الشرعي / الديني » ، رغم أنه ، حسب علماء الاجتماع السياسي و خبراء القانون الدستوري ، ليس بدستور ، ما دام لا يدقق في فصل السلطات ، فتماهي المسؤوليات وتماهي السلطات والصلاحيات ، كان ولا زال يشكل قلقا فكريا ، ويطرح سؤال المخاطب من حيث إثارة المسؤليات . فنحن نقر افتراضا بوجود الدولة ومع ذلك تتيه الرقابة والمحاسبة وبالتالي المساءلة السياسية ، فهل يكفي القول بأن « المخزن » هو المسؤول عن كل ماجرى من تخلف وتقهقر وانتهاكات ، وهو شيء يثير سؤال اللا دولة .
إن وجه الغرابة والمصادفة هو أن السياقات ، كما تمت الإشارة سابقا ، تذكي الشعور والتوجس ، بأن مؤشرات موت الدولة / الأمة قد وشكت على استنفاذ دورتها ، فالحقوقين مهووسون بسؤال الدور والمهام لمرحلة ما بعد الدولة . ، ، فقد سبق أن لمحوا في عديد من الندوات الحقوقية ، إلى أن بعض الدول ، ومنها المغرب نفسه ، قد تصير ضحية لحلفاء الأمس ، فهل سيحل الحقوقيون محلها ، وما هي إمكانية التعاون لاستكمال تنفيذ التعاقدات والالتزامات الدولتية ، ذات الصلة بحقوق الإنسان ؟ أليس مثال « داعش » صارخا في هذا الصدد ، ويبرز مدى خطورة حلول اللادولة والفوضى محل الدولة والقانون . ولهذا يطرح سؤال الشرعية والمشروعية ، الذي حان الوقت لتمثل أهميتهما ، في مرحلة يفترض فيها انتقاء مسار الشرعية ، حيث جدوى انسجام تحصين المكتسبات الحقوقية « الوضعية » مع الحرص على تطبيق القوانين في تطابق مع التعليمات والإجراءات التنظيمية . في حين يمكن التريث في استكمال « إبداع » حقوق جديدة ، لا يمكن لمجتمع التمثلات التقليدانية أن يتجاوب معها ، في ظلال مد محافظ متصاعد ؟؟
قد نكون متخلفين اذا لم نستحضر " هدنة " مفترضة هذه الأيام ، ولم نستغل رغبة بعض النخب في إدخال تعديلات على الدستور ، من اجل الإجابة على التوجس من فزاعة " اللادولة " والفوضى المرافقة ، فالخصاص الاجتماعي لن تفيده السياسات التنموية الاحسانية في شيء ، بل لا مناص من رد الاعتبار للطابع الالزامي للبعد الاجتماعي في الهويات الحزبية ، باعتبار أن الاحزاب من يصنع السياسات العمومية ، مما يستدعي ضرورة تأهيل العمل الحزبي وكذا مأسسة الوساطة الدستورية والمدنية ودمقرطة المشاركة السياسية ، وتطهير تدبير الشأن العام من الأبوية والوصاية ، بتكريس المشروعية وسيادة القانون ، بدلا عن تنازع الشرعيات الدينية او التاريخية أو الديماغوجية الشعبوية ، وهي مطالب ينبغي أن يؤطرها الحق في الاختلاف ، مما يقتضي معه دسترة حرية المعتقد والضمير .
وفي آخر التحليل وجب التأكيد على أنه علينا أن نواصل حروبنا العادلة عموديا ، ولكن النصر التام يشترط علينا عدم الاستهانة بالصراع الأفقي الذي دونه لن نفلح في تحييد التمثلات الثقافية المناهضة للتقدم والحداثة ، صراع لن نخوضه بالوكالة عن المظلومين ولا عن الظالمين ، بنفس القدر الذي لن نراهن فيه على " علاقات مباشرة مع الدولة " دون وساطة وتأطير ل" الدكاكين " السياسية على علتها ، مادامت النتيجة ستكون افضع من توجساتنا من سياق وتداعيات " اللادولة " الوخيمة .