27‏/03‏/2022

صخر المهيف: الأساطير المؤسسة للمشهد الثقافي المغربي


يشتغل المشهد الثقافي المغربي المعاصر بآليات لا عقلانية بعيدة عن روح العصر،  إذ يتأسس على جملة من الأساطير التي تحد من ديناميته  وتحصر آفاقه وتضفي عليه هالات من الجمود والقداسة، وأتحدث في هذا الصدد عن الإبداع المغربي المعاصر الذي يطال كل  المجال الرمزي بتنوع عناصره وغنى مشاربه وشساعة مداه الجغرافي وتفرعاته الأجناسية والتعبيرية سواء تعلق الأمر بحقل الفنون الفضائية أو الزمانية،  وقد تأسس المشهد الثقافي المعاصر في اشتغاله على جملة من الأساطير المبنية على أحكام  مسبقة وأفكار جاهزة تتمظهر في سلوكات متكررة تجد سندها الموضوعي في عدد  من المؤسسات الثقافية - الرسمية  وغير الرسمية- التي  تقوم بإنتاج  سلوكات تعكس قيما وذهنيات لا علاقة لها بالعصر أو بالحداثة أو بالعقلانية، وهذا يبدو واضحا في استفادة أقلية من منتجي الرأسمال الرمزي من وضع اعتباري ومكانة اجتماعية دون الآخرين، وهو وضع لا يعبر بالضرورة عن كفاءة أصحابها ولا عن تفوقهم إبداعيا ومعرفيا بقدر ما يعبر عن واقع ثقافي يشتغل بمنطق القبيلة الحزبية والانتماء الجغرافي لهذه المنطقة أو تلك ولا يعترف إلا بمواقع الفاعلين الثقافيين في الهرم البيروقراطي للدولة، للأسف الشديد .


أسطورة السلف الصالح :


ترتكز هذه الأسطورة على كون راهننا الثقافي الحالي لا يمكن أن يجاري ما أنجز في الماضي،   فقد تساءل  القاص هشام بن الشاوي، في معرض مشاركته في ملف حول القصة القصيرة المغربية كان قد أشرف على إنجازه القاص المغربي هشام حراك، عن إمكانية تجاوز جيل التسعينيات  فرسان القصة الثلاثة محمد زفاف وإدريس الخوري و محمد شكري،  وهو تساؤل يعني الكثير من التقديس للماضي، خصوصا أنه جرى على لسان قاص محدث، وذهب الأستاذ عبد الحميد الغرباوي، في تصريح خص به مجلة روافد ثقافية، إلى أن الكتاب الجدد يتحلون بجرعة زائدة  تبلغ حد الغرور خلافا لما كان عليه الأمر في الزمن الماضي لما كان الكتاب الشباب يمنون النفس بسماع كلمة تشجيع واحدة من الكتاب الأكثر منهم سنا وتجربة،  وإن كان هذا القول يحمل في طياته بعض المصداقية  فإنه لا يمكنني تجاهل الوجه الآخر للعملة،   وينطبق هذا الأمر على حقول إبداعية أخرى كحقل الموسيقى والتشكيل اذن نسمع من حين لآخر الى الاغنية المشروخة التي يتغنى بالزمن الجميل لهذا الحقل الإبداعي  أو ذاك.

والحقيقة أن ما يفند هذه الأسطورة قصور المشهد النقدي عن المواكبة الحثيثة لما يستجد من الإصدارات ناهيك عن ضعف الإعلام الثقافي،  ذلك أن النقد لم يواكب ومازال لا يواكب مجمل الانتاجات الثقافية في صيرورتها لأسباب ذاتية وموضوعية خصوصا مع ضعف التوزيع والمقروئية، فيغدو من اليقين أن مثقفين جادين كثر طالهم التهميش وما يزال، بالإضافة إلى الغياب شبه التام للنقد في بعض الحقول الإبداعية مثل علم جمال الموسيقى والفكر التشكيلي وهو ما لا يسمح بتقييم حقيقي لمسارات الثقافة المغربية المعاصرة كما يشكل أحد نقاط ضعفها الأشد  إيلاما.

لقد منحت معظم جوائز الدولة المغربية للكتاب لأسماء تنتمي  إلى الزمن (الجميل) سبق  أن تقدمت لنيل الجائزة بسبب حاجتها إلى الأموال في بعض الأحيان، بل إن نتائج المسابقة كانت معروفة مسبقا وإن كان الوضع قد تغير قليلا في السنوات الخمس الأخيرة،  مما دفع ويدفع إلى الظل بأسماء مشهود لها بالكفاءة لا تنتمي  إلى السلف الصالح الذي ينظر إليه أحيانا نظرة تقديس وإجلال يفوق الوصف، وهو ما تنبه إليه الروائي والناقد المغربي المعروف محمد برادة في أحد تصريحاته الصحفية بجريدة المساء بقوله:

"أظن أن هناك الآن مواهب مغربية تعبر عن نفسها، وستتمكن  من الذهاب بعيدا إلى أبعد مما حققناه لأن الحياة على كل حال تتطور، ما يقلقني أحيانا هو أن الشروط التي يعيش فيها المبدعون المغاربة لا تتحسن وترتبط بمشكلة الأمية وأزمة توزيع الكتاب والوضع الاعتباري للمبدع".

 

أسطورة التكريس:


 تحمل هذه الأسطورة طابعا استعاريا  وترتبط في جانب منها بأسطورة السلف الصالح، بيد أنها تمتد في جانب منها إلى  الوجدان والذائقة الجمعية لجمهور المتلقين والمبدعين على حد سواء، يكفي أن يلجأ المبدع إلى النقاد والصحافيين بدهاء ومكر ليضع حول نفسه هالة وضجة فيصبح اسمه على كل لسان وحين ينبري النقاد للكتابة عن أعماله لا يتناولونها في الغالب بالنقد العلمي المستند إلى أدوات منهجية صارمة  وجهاز مفاهيمي مضبوط،  بل بالكلام الفضفاض العام الخالي من أي محتوى معرفي رصين، وعندما يتعاطى المتلقي المسكين مع المتن موضوع الكتابة النقدية،  يصاب بخيبة أمل كبيرة جدا فيؤتى  في مقتل،  وتتكرس أسماء دون أخرى لأسباب متعددة أهمها الانتماء الحزبي والولاء الشخصي وهو تكريس لا يمت بصلة بالضرورة إلى قوة المنجز الإبداعي لهذه الأسماء المكرسة بقدر ما يخضع للاعتبارات الآنفة الذكر بالإضافة إلى المركز الاجتماعي والثقل السياسي لهذا المبدع أو ذاك، إذ يكفي أن يصدر وزير شاعر سابق كمحمد الأشعري رواية «القوس والفراشة» حتى تقوم عشرات الجمعيات بتنظيم حفلات توقيع فتتجند آلة إعلامية رهيبة  للحديث عن هذا الأثر وتمجيده، والأمر نفسه ينطبق على رواية «جيرتولد» للرئيس السابق لاتحاد كتاب المغرب حسن نجمي و«الموريسكي» لحسن أوريد و«البعيدون» لبهاء الدين الطود  و«لعبة النسيان» لمحمد برادة،  في حين أن روايات أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها،  كرواية «سرير الأسرار» للبشير الدامون ورواية  الأبله وياسمين والمنسية للروائي الميلودي شغموم ورواية «موسم صيد الزنجور» لإسماعيل غزالي لم تحظ  بالأهمية التي تستحقها، وحسب علمي لم تحظ  رواية سرير الأسرار- الصادرة عن دار الآداب البيروتية- بأي حفل توقيع لتقريبها وصاحبها من الجمهور، وإن كانت السينما المغربية قد حولتها إلى فيلم سينمائي أخرجه المخرج المغربي الجيلالي فرحاتي.

 على أن أسطورة الأسماء المكرسة لا تمارس فعلها على منتجي الرأسمال الرمزي والفاعلين الثقافيين فقط،  بل تتعداه الى الفاعلين في جمعيات المجتمع المدني أيضا، الذين لا يؤمن أغلبهم إلا بالأسماء المشهورة التي تحتل مناصب عليا،  إن للشهرة سلطة تدوي في القلوب، وإذا رأينا في السلطة ممارسة نفسية تتجسد في كل تمظهرات المجتمع كما عبر عن ذلك محمد أمين بن جيلالي، يغدو الاهتمام الوافر الذي يغدقه الكثيرون على أسماء دون غيرها،  نوعا من التملق والتزلف الذي لا يخدم الثقافة المغربية في شيء، إنها ذهنية  مستشرية  في الوعي الجمعي قائمة على الإعجاب بذوي الشهرة والنفوذ وليس على الإيمان بالعطاء الحقيقي للمبدع وقوته الإبداعية.


 أسطورة قتل الأب:


تتزامن من حين لآخر قضايا ثقافيه لن أقول عنها إنها هامشية بل خاطئة من الأساس،  فالمقدمات الخاطئة تقود الى نتائج خاطئة بالضرورة، وليست أسطورة قتل الأب إلا أنموذجا بئيسا لهذه القضايا ذات المقدمات الخاطئة التي يروج لها بعض الفاعلين في الحقل الثقافي المغربي،   وتقوم هذه الأسطورة على اعتبار أن الجيل المعاصر من الكتاب والمبدعين لا يقيم أي احترام للكتاب القدامى وهو ما يعكس جانبا من الوعي الشقي السائد لدى بعض الكتاب الذين شاخوا  في الكتابة على حد قول محمد شكري،  ولعل ما راج قبل عقد من الزمن على لسان الكاتب إدريس الخوري وهو يصف بعض الكتاب الشباب الذين لم يعودوا شبابا بالمناسبة بغلمان الأدب، يظهر إلى حد ما فجوة عميقه بين الأجيال، علما أن الأجيال  المعاصرة قامت  بتكريم كثير من كتاب جيل الرواد ومنهم من شبع تهميشا ونسيانا،  وكان ذلك في إطار ملتقيات وندوات في مدن الهامش بمدن بركان  وخنيفرة ومشرع بلقصيري وزاكورة وبركان ومكناس،  ومن ثم تم نفض الغبار عن أعمال أدبيه مهمة،  فتغدو بالتالي مقوله قتل الأب نائية عن الحقيقة والموضوعية معاكسة للحقيقة التاريخية وللواقع أيضا، كاشفة عن تجذر النزعة الأبوية في اللاشعور الجمعي لفئة عريضة من منتجي الرأسمالي الرمزي بالمغرب وصار الهجوم على الأجيال المتأخرة من الكتاب أمرا مألوفا في شتى مناحي الإبداع،  فالآية معكوسة تماما لأن ثمة عملية قتل جماعي رمزي مارسه بعض الشيوخ في حق المبدعين المعاصرين، وهذا القتل الرمزي نابع من قناعة أسطورية مفادها أنه  ليس بالإمكان أفضل مما كان، وذلك بالنظر إلى حقيقة مرعبة كامنة في تخلف المشهد النقدي عن مواكبه الجديد الابداعي،  طبعا لا أتحدث عن استثناءات قليلة تعمل في صمت ونكران ذات قل  مثيله، ناهيك عن الغياب شبه التام للتبشير بالمبدع،  هذا الفعل الذي طالب به الكاتب الراحل عبد الجبار السحيمي في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وجسده عمليا  أحمد بوزفور وهو يلفت الانتباه إلى موهبة القاص  والروائي إسماعيل غزالي.


 أسطورة الحداثة:


 لعل هذه الأسطورة مرتبطة بذهنية  منغلقة سائدة ذات بعد واحد، ذهنية تفتقد إلى النزعة النقدية و مغامرة السؤال،  فتم اختزال الحداثة في صورها  الشكلية ومظاهرها الاستهلاكية، لقد بتنا نسمع في كل حين كلاما متكررا عن الحداثة فغدونا أمام حداثة معطوبة بتعبير محمد بنيس، حداثة   مسبية، فصار الحديث عن قصة حداثية ورواية حداثية  وقصيدة حداثية ولوحة تشكيلية حداثية يجري على الألسنة مجرى الماء في الساقية، مع أن هذه الأشكال التعبيرية لا يمكن إلا أن تكون حداثية لأنها  بكل بساطة بنت الحداثة وإفراز لها،  في حين أن الممارسة الحداثية غائبة بشكل شبه كلي  عن مشهدنا الثقافي، كما أن الحديث عنها غائب تماما ولو همسا، إنها محشورة  في دائرة المنسي الثقافي لاعتبارات متعددة تاريخية في عمقها ومضمونها،  على أن تتبعا بسيطا لما يجري في الساحة الثقافية يجعلنا نخرج بخلاصات قاطعة أبرزها أن أغلب الفاعلين الثقافيين لا يمتون بصلة إلى الحداثة في ممارساتهم الثقافية التي يحكمها الولاء للقبيلة السياسية أو الجغرافية،  سواء فيما تعلق بالنقد حين يغدو كل منجز ينتمي صاحبه الى دائرة القبيلة، حاضرا في المشهد ومنزها عن النقد بعيدا عن معيار الكفاءة الذي  هو  جوهر الحداثة  وأقنومها الأبرز، حتى بات كثير  من النقاد يلوكون لازمة  الحداثة  في كل مناسبة:  هذه القصيدة حداثية، هذه القصة حداثية وتلك  الرواية حداثية لا لشيء إلا  لأنها خلخلت البنية الشكلية المتوارثة  أو لأنها تناولت الطابو والمنسي الثقافي  دون تشريح لهذه  الخلخلة من حيث طبيعتها وجدواها وحدودها  الفنية حتى لو كانت هذه الأعمال مجرد صدى لأعمال أدبية أجنبية  واقتباسا منها أو سرقة مبطنة لروحها،  كل هذا يحصل في سياق هيمنة روح القبيلة على المشهد التي لا تلقى  بالا لكفاءة العمل المنقود،  بل لانتماء صاحبه الحزبي ومكانته الاجتماعية ووضعه المادي في تناقض صارخ  مع روح الحداثة التي يتغنى بها الكظيظ  من الكتاب المغاربة الفاعلين في هذا المشهد العجيب دون أن يلموا بعناصرها الثلاث أو يستوعبوا مفاهيمها وأطوار تشكلها التاريخية وخلفياتها المعرفية وقطائعها الابستيمية منذ عصر النهضة الأوروبية إلى ستينيات القرن الماضي حين صارت عرضة لانتقادات كثيرة انصبت معظمها على  الحداثة السياسية. 

والحالة هذه فرضت  من حيث المبدأ طرح السؤال التالي: هل تستقيم الحداثة بلا نقد أو تجاوز؟ وكيف لمشهد ثقافي أن يتطور في ظل سبات نقدي حقيقي وفي ظل سيطرة أصنام مقدسة مكرسة من قبل أفراد القبيلة؟ ما الذي جعل رواية «رفقة السلاح والقمر» و«الريح الشتوية» لمبارك ربيع تدرسان في أقسام الباكالوريا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مع تغييب روايات أخرى مهمة   كرواية الإمام  للخمليشي؟  أليس منطق القبيلة؟  ألم تشكل رواية الريح الشتوية عقوبة للأساتذة والتلاميذ لافتقادها الحرارة الإنسانية؟ 

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد اشتكى   المتعلمون والأساتذة من تدريس رواية أوراق لعبد الله العروي،  ولم تقرر رواية أوراق في أقسام البكالوريا الأدبية  إلا بسبب الحضور الفكري البارز للعروي وطنيا وعربيا بالإضافة إلى قربه من أصحاب القرار السياسي والتربوي شأنه في ذلك شأن مبارك ربيع  دون الأخذ بعين الاعتبار مدى ملاءمة هذه الروايات لذائقة التلاميذ الجمالية ومدى صلاحيتها البيداغوجية ما كان سببا من أسباب النفور من الإقبال على الكتابة الإبداعية المغربية من طرف المتلقي المغربي.


 على سبيل الختم


إن المشهد الثقافي المغربي مازال يشتغل بآليات عتيقه تؤدي إلى نتائج عقيمة بالضرورة هي نتيجة تراكمات تاريخية تعود إلى  زمن هيمنة الحزبي الضيق على الثقافي، وهيمنة السياسي في مفهومه الأضيق على الثقافي في تجليه النقدي، ولعل الخطبة الأكبر كامل في عقول التهمت كثيرا من الكتب والمعارف لكنها ظلت محصنة تحصينا كاملا ضد رياح القيم الجديدة، تلك التي أولاها هيغل الاهتمام البالغ، أعني  بها القيم التي تنتصر لذات الفرد وإرادته.

صخر المهيف

أصيلة: 2010
























  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: صخر المهيف: الأساطير المؤسسة للمشهد الثقافي المغربي Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top