السبت، 17 أبريل 2021

محمد زمراكي: استهلال حكي: من هذيان السيد مُبَعْثَر بن مستقيم الحلقة 12


للضاحية أيضاً ضَاحِيَّتُهَا، أو قُلْ ضواحيها، حين ينتهي الإسمنتُ والإسفلتُ، حين تنتهي حُمْرَةُ الآجُر، وتنتهي امتدادات حبال الكهرباء، تبدأ أحياء الحُمُّصِ، مثل أشرطةٍ سَوْدَاءَ على جَنَبَاتِ الوادي، تُشبه سراديب قصبية، سلاسل من الأكواخ المتكئة على بعضها جهة الرياح، مغطاة بقطع زنك أو بلاستيك وقماش، هناك حيث الجميع يسمع الجميع، والجميع يراقب الجميع و الأنينُ والزئيرُ يمتزجان في سنفونياتٍ تُثير الرغبة في الضّحك بمقدار ما تولد من رغبة في البكاء ... مسالك طينٍ ووحلٍ كي تخترقها لن يكفيك هزم وحوش دانتي الثلاثة حارسة الغابة / "الجحيم" ... ذلك أن في كل كوخ وحش وزوجُه، وحشٌ ووحشةٌ وبِضعُ فِراخ، والفراخ عادة في هذه البلاد تكون  بشراسة كبارها بل أشد و أكثر اندفاعا وجرأة وخفة في الانقضاض لكنها سريعة الألفة عند المداعبة ولو اعترى حركاتها قليلُ بلادةٍ... في ضاحية الضاحية يختلط البؤس بأسبابه ومسبباته، يعيش معها ويتعايش حتى يأتيه الأجل ... خلف شريط الأكواخ من جهة الوادي تصطف استغلاليات صغيرة تمارس فيها زراعات معاشية بسيطة ورقيات وخضروات، تباع بأزقة الأحياء المجاورة، كما فيها مختلفات من شجيرات تين ومشمش وعنب ورمان في تجاور غير منتظم تزدحم أحيانا مثلما تزدحم أكواخهم، فبعضهم عادة يشغل جحرين، جحر للسكن والإيواء وجحر للزراعة، لم أكن يوما أتخيل أن زراعةً داخل جحر ممكنة !!! تسقى بماء عفن، تجود به قنوات الصرف الصحي من مياه عادمة تنحدر من المدارات السكنية المجاورة لذلك تراها عرضة للعدوى باستمرار أوراقها شاحبة مثل وجه العقوق، ولذلك لا تؤتي أكلها كل حين من سوء ما تُسقى به، و لا طيب لثمارها وإن أثمرت ... وهناك ترى أقواما بلون التراب وآخرون بألوان الزهور، هناك الكل يحكي عن أسطورة "زرهليم الوادي"، مُطَوِّعِ الزمن، يُحكــى أنه أدرك الأربعين وعاد للثلاثين وبقي في الثلاثين ما شاء له القدر أن يبقى، ثم طلب العشرين وكان له ما طلب، إلى أن سمع به الحاكم وأرسل في طلبه، فتعذر على الحراس الوصول إليه لسرعة سفره، إلى أن بَلَغَهُ النَّبأُ فَسار نحو القصر شابا يجري إلى أن نزل عند الباب طفلاً يَحْبُو ووقف أمام الحاكم كهلا فهيما... سأله الحاكم : وما أمرُ  سفريات الزمن؟ تأمل وجه الحاكم ثم أجاب باستحياء : إنِ الشيخوخة إلاّ شبابٌ بكثير من النُّضج ... ورغم البؤس في الضاحية يمكنك أن ترى من يَنْتَعِلْنَ ومن تَنْتَعِلْنَ آخر صيحات الموضة العالمية، لارتياد الأقبية والسراديب الموازية، لبيع اللحوم، أو لبيع المجوهرات النباتية... كما أنه لا عجب أن ترى شابا يضع قرطا في أذنه أو قرطين ولو أنه في عادات الثقافات الشرقية النساء فقط تضعن أقراطا، بينما معروف في الثقافات الغربية وضعه من طرف الرجال والنساء على السواء ... عموما كل حدث في القمة له صداه في الضاحية وفي ضواحيها عبر آليات حوار متبادل بين المركز والهامش لكن غير متكافئ، تتهاطل الرسائل وتتلوها التحليلات والاستجابات، قبول ورفض وانتقادات، وعموما كثير من الكلام والإشاعات والإشهار، الإشهار دائما يقهر المسافات، يصل إلى حيث لا يصل طريق ولا إسمنت ولا إسفلت ولا أنابيب ماء ولا حبال كهرباء ... وكان لـ"زرهليم" زوجة تُدعى "زهرنيم" سئمت من حال زوجها وتبدل أحواله، بين كهولة حكيمة وطيش شباب ولَعِبِ الصِّبَا، فنذرت عمرها للسير صوب الجبل عَلَّهُ يسمع منها شكاية، تلك كانت وصية عرافة، كانت تسير إلى أن تلاشت، مثلما تلاشى الطريق، تلاشى الجبل وتلاشى المسير وبقي "زرهليم" يبحث عن "زهرنيم" حتى يكبر ولا يجد لها أثرا فيطلب الصغر، يأتيه الصغر فينساها حتى إذا تذكرها بحث عنها زمنا حتى غالبه الكِبَرُ وبقي على ذلك الحال ما شاء له القدر أن يبقى إلى أن أتاه اليقين وحدثه بالصوت الرصين : من لا ينعم بحب الضعفاء والبسطاء من الناس غابت عنه نِعمٌ جمة، حب البسطاء دائما يكون بألوان المطر، مع البسطاء فقط يمكنك نسيان العالم. تحول عنده حب "زهرنيم" الى حب البسطاء والضعفاء فآزرهم في كل المحن، تكفل بقرابين أعيادهم وطعام جنائزهم وأعراس أيتامهم ولم يتقدم يوما لانتخاباتهم وهو يقوم بما لا يقوم به منتخب، لو أوتي الفكرة لكان شيد مصفاة رملية لتلك المياه العادمة لكن أحدا لم يُخطره بذلك ولا هو من النوع الذي يمكن أن يفكر في ذلك أو يفطن له تلقاء نفسه، كان جد منشغل بما يديره من شبكات ترويج المجوهرات النباتية وكان خبيرا في المسالك الليلية والرمادية، الرمادية خصوصا كان يوليها كبير اهتمام، مع أن عهد "زرهليم" لم يشهد قنوات صرف صحي كانت الحمامات تلقي بمياهها خلف الجدران مباشرة تنحدر روافدا نحو الوادي كذلك الأمر بالنسبة لمعاصر الزيتون ودور الدبغ والمجازر وغيرها من المرافق الملوثة للمياه، ولا عجب آنذاك فساكنة باريس في تلك الآونة كانت تلقي بفضلاتها عبر النوافذ، لذلك يروى أن أزقتها كانت تعج بالفئران ولذلك استأسد فيها الطاعون أكثر من عواصم غيرها   ... 

... يُتْبَعُ ...

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات
Item Reviewed: محمد زمراكي: استهلال حكي: من هذيان السيد مُبَعْثَر بن مستقيم الحلقة 12 Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top