14‏/12‏/2020

محمد برادة: المِسْترال والحَجْر

 

في ندواتٍ حضرتُها أيام الشباب، كان السؤالُ المُسيْطِر على حواراتنا: قطيعةٌ أمْ إبداعٌ مُغاير؟ الآن، أجدُ أن هذا التساؤل ينطوي على مغالطة تحتاج إلى مُراجَعة. ذلك أن الإبداع في دلالته التاريخيّة والجماليّة والإنسانيّة يتوخَّى القبضَ على ما يجعل الحياة أفقاً مُغرياً للإنسان عبْر فرْضيّةٍ تستوحي المُخيِّلة والمشاعر والعقل. ومن هذه الزاوية نكون أمام عَالَمٍ دعائمُه الإبداع بمعناه الشامِل، العابِر للأزمنة والقابِل لكلِّ الإضافات والتحويرات بعيداً عن القطيعة التي تَحْرمُنا من استلهام واستحضار تلك الإبداعات التي أسَّستْ مملكة الحياة.

إحساسٌ غريبٌ يملأني ويستحوذ على مشاعري وأنا أتابع هوْجة المِسْترال، تلك الريح الشماليّة العنيفة الباردة الجافّة، التي تهبّ على مناطق فرنسا القريبة من البحر الأبيض المُتوسط، فتبدو الأشجار كأنها ستُقتَلع من جذورِها إذ تخضّها خضّاً وتنفضها من جذورها، فتسري الرعشةُ في عروقها وأغصانها، مُحدثةً ما يُشبه كُورالاً يُنشدهُ حفيفُ الأشجار على اختلاف قاماتها… هل تلك اللحظات التي يعصف خلالها المِسْترال هي بمثابةِ تجذير لها في أعماق التربة ليجعلها تقاوم كلّ اقتلاع؟ آهٍ من الاقتلاع الذي يُلاحقني في لحظات الملالة والخمود فأتمنى، وأنا أسترجع مشهد الأشجار وهي ترجُفُ في قبضة المِسْترال، أنْ أغدو مثلها تخضّني تلك الريح العاتية وتُشعلُ دواخلي، بلْ تُعرِّيني من كلِّ لبوسٍ لأقدرَ على التواصُل مع ما يجعلني «حقيقيّاً» وسط هذا الكون المُلتبس، المُضطرب. لديّ إحساسٌ غامض، كلما زار المِسْترال هذا الفضاء الذي أسكنه، مُحاطاً بالأشجار، أن النفْضَ الذي يمارسه على الأشجار هو في الآن نفسه نفْضٌ لجسدي وأفكاري وأحلامي المكرورة؛ فأبادر إلى إغماض العينيْن واستنشاق الريح الشماليّة العنيفة بكلِّ جوارحي، مُستسلماً لهُبوبها علّهُ ينقلني إلى تلك المنطقة المُتمنِّعة، حيث تكون الحياة أكثر من حياةٍ واحدة، أكثر من أحداثٍ ووقائع وطقوسٍ مُعتادة… حياة تشمل الجسد والنفس والذاكرة، وتُحصِّن الكيانَ البشريّ من كلِّ تجزيء وتصونُه من التحلّل.

مع الأيام، غدوتُ أترقبُ زيارات المِسْترال الذي يطردُ المطر والغمام، ويُبدِّد الدّكنة التي ترينُ على الخاطر وتنشر الخمول والكآبة. والجميل في هذا اللقاء، هو أن زمن نفْضِ الأشجار والعُشب والتربة يدومُ ساعاتٍ وساعات، وأحياناً أياماً بِلياليها، فيغدو هذا الجزءُ من الطبيعة مكسُوّا بديناميةٍ تنفث الحركة وتنشر صوت الرياح وهي تخترق الأغصان والفجوات وتنفذ إلى كلّ فضاء غيرِ مُحصِّنٍ لتنفْضه حتى النخاع. وعندما يتعب المِسْترال، أو يعود إلى مُستقرّ له مجهول لديّ، تكتسي الطبيعة، أرضاً وسماءً، حُلة الصّحو والإشراق والنصاعة الناطقة. عندئذٍ أغوص أنا في النصاعة المُطمئنة وأجدِّدُ تدريجيّاً ما ينقصني من الأوهام والتطلعات، لأتمكّن من متابعة الأيام والليالي في انتظار ذلك المُستقبل الغامض علّهُ يبدّدُ الكوابيس والقنوط… لكنْ، سرعان ما أجدُني تحت شجرة التوت الوارفة مُتطلعاً إلى هبوب المِسْترال من جديد لينفض عني ما تراكَمَ من أدرانٍ وتساؤلاتٍ مُعادة عن الصدفة التي أخرجتْني إلى الوجود نطفةً حائرةً تنمو وتواجه لغزيّة الحياة من دون أن تدري مآلَ صيرورتها.

مع الحَجْرِ الذي فرضه فيروس كورونا، أصبح شعورٌ يُلازمني بأنني أعيش مفصولاً عَن أشياءٍ كانت تمنحني طمأنينة الانتماء والانصهار: لمْ أعدْ أتعرَّف بسهولة على ذاتي، خاصة وسط الليل عندما أستيقظ دون ما سبب فتتراءى لي بالوعةُ الجَائِحة فأظلُّ مذهولاً قبل أن أتذكَّر ملامح «أنايَ» المَنسيّة. أقول مع نفسي: مَنْ يدري؟ لعلَّ المِسْترال في المرّة القادمة، وهو ينفْضُ الأشجار، أنْ يتمكنَ من النّفاذ إلى أْوْصَالي الشائِخة، الناعِسة، فينفْضُ عنها الخمول ويزرع في الحنايا تلك البذرة التي تجعل حياتي أكثر من حياة؟

الكتابة فرْضيَّة لاستجلاء العَالَم

أعتقد أن الكتابة تستمدُّ نبضها وحيويّتها من مُعانقتها لذلك الصراع الظاهر والخفيّ الذي يجري وراء ستار لاقتناص سيرورة الحياة وتجلّياتها المُتنوِّعة. من ثمَّ تؤول الكتابة إلى نوع من المُواجَهة بين الكاتِب المُبدع والنصّ الذي يسعى إلى إنجازه، وتغدو هذه المُواجهة كأنها صراعُ جسدٍ ضد جسدٍ يُستخدَمُ فيه التحايُل والعنفُ واللجوء إلى ما وراء اللّغة… لا أظنّ أننا نكتب لننسخ واقعاً أوْ نحاكي أحداثاً، بل لنقدِّم رؤيتنا إلى ما نعيشه في سياقٍ مُعيّن وضِمْن ذاتٍ لها فرادتُها في العيش والتفكير. ولأن الكِتابة الإبداعيّة تعني، قبل كلّ شيء، التوسّل بأشكالٍ فنيّة وجماليّة مفتوحة على رحابة التخييل، فإن حرّيّتها لا تتحقَّق إلّا ضمنَ شسوع المضمار الإستطيقي الذي يُضفي الخصوصيّة على اللّغة والشكل والدلالة. ولأن الكاتِب لا يتوخَّى الوصول إلى حقائق علميّة، إذْ إن مجاله مُتصل بالمشاعر الزئبقيّة واللحظات المُتلوِّنة المُتفاعِلة مع السياق والمزاج ونزوات الذاكرة، فإنه كثيراً ما يلجأ إلى تخيُّلِ أكثر من ردِّ فِعل، خاصّة عبْر الشخصيّات والبيئات المُتباينة…

يذهب الناقِدُ والفيلسوفُ البريطانيّ جورج ستاينر في كِتابه «نَحْوُ الإبداع» إلى أن: «الكتابة هي، في العمق، الإلقاء بِفرْضيّةٍ إلى العَالَم». أجدُ أن كلمة «فرْضيّة» (hypothèse) تعبِّر عمَّا في الإبداع من صُدْفويّة وعدم اكتمال، إذْ إنه لا يخضع لقوانين محدَّدة مسبقاً، ويمتحُ من مصادر متشابِكة في مرجعيّتها ومشاعرها، فضلاً عن أنه يتمُّ عبْر ذاتٍ محكوم عليها بالموت والفناء في عالَم مُستمرّ في الوجود والبقاء… من ثمَّ لا شيء في مجال الإبداع البشريّ يبدو مُكتملاً أوْ نهائياً. نتيجة لذلك، كلّ فرْضيّة تطرحها الكتابةُ الإبداعيّة على العَالَم تظلّ قابلة للتعديل والنسخ وإعادة الصياغة. ولا شكّ أن عنصر الزمن المُتغيِّر وتأثيراته على بنيات المُجتمعات وقيمها ومستواها المعرفيّ يستدعي تحوُّلاتٍ في صوغ «الفَرْضيَّات» وأشكال التعبير الجماليّ…

ولمّا كان مجال الاختيارات الفنّيّة والفَرْضيَّات الدلاليّة جدّ شاسع ومُتشابكاً، فإنهُ من الصعب تخمين الفرْضيّة الصائِبة التي تُغني عن سواها. لأجل ذلك، يغدو تبايُن وتجاوُر وتصارُع الفَرْضيَّات والرؤى مسألةً حتميّةً تجُرّ في أذيالها تعدُّد أشكال الكِتابة، وتعدُّدَ تأثراتها بما سبقها من إبداع.

يبقى السؤال الأصعب بالنسبة للكِتابة، التي لا مناص لها من أن تتفاعل مع الزمن وتبدُّل القيم، هو: على أي شيء تُراهِن الكِتابة استراتيجيّاً، إذا صحَّ التعبير: على تجسيد سوداويّة الحياة وما يكتنفها من تشاؤمٍ وأفق عدميّ؟ أمْ على أفقٍ ترانساندانتالي مُتعالٍ على شبح الفَناء والتلاشي، ومُنتصر للحياة رغم هشاشتها؟

أرى أن الكِتابة الإبداعيّة لا تُحيلُ على «واقع» أوْ عَالَمٍ ملموس؛ بل تحرص على أن تخلق عالَمها الخاص الذي يستمدُّ عناصر بنائه من الملموس والمُتخيَّل والمحلوم به… بذلك، يصبح النصّ واسطةً لِمُساءلة الواقع ومساءلة علاقة الإنسان بالقيم التي يستوحيها وعلاقته بما يقترحه من بدائل عن الموت وعن نهاية رحلتنا الأرضيّة…

في ندواتٍ حضرتُها أيام الشباب، كان السؤالُ المُسيْطِر على حواراتنا: قطيعةٌ أمْ إبداعٌ مُغاير؟ الآن، أجدُ أن هذا التساؤل ينطوي على مغالَطة تحتاج إلى مُراجَعة. ذلك أن الإبداع في دلالته التاريخيّة والجماليّة والإنسانيّة يتوخَّى القبضَ على ما يجعل الحياة أفقاً مُغرياً للإنسان عبْر فرْضيّةٍ تستوحي المُخيِّلة والمشاعر والعقل. ومن هذه الزاوية نكون أمام عَالَمٍ دعائمُه الإبداع بمعناه الشامل، العَابِر للأزمنة والقابِل لكلِّ الإضافات والتحويرات بعيداً عن القطيعة التي تَحْرمُنا من استلهام واستحضار تلك الإبداعات التي أسَّستْ مملكة الحياة الحق، مُنذ شعراء الجاهليّة، وتراجيديّات شعراء الإغريق، وروايات مَنْ ساروا على خُطى دون كيشوت، الحَالِم المجنون.

لأجل ذلك، حينما نريد التّعرُّف على قيمة الكِتابة الإبداعيّة، لا مناص من أنْ نعزلها عن الخطابات الأخرى والمواقف التي صدرتْ عن صاحبها لنتأمَّل الكِتابة الأدبيّة عاريةً عن تلك الهالاتِ التي لا تمتُّ بصلةٍ لإبداع الأدب. ومن ثمَّ يكون التقييمُ نوعاً من المُواجَهة بين النصوص ومقاييس النقد والفنّ وخُلاصات تاريخ الإبداع…

محمد برادة  

عن مجلة الدوحة

|  11 أغسطس 2020

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: محمد برادة: المِسْترال والحَجْر Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top