02‏/08‏/2023

رحيل الفنانة الإيرلندية الشهيرة شينيد أوكونور...المسلمة المتمردة.. التي صفعت الكنيسة

رحلت اول أمس المغنية الأيرلندية شينيد أوكونور عن 56 عاماً واسمها الحقيقي "ماغدا ديفيت"،بعد مسار فني عالمي حافل شينيد التي عُرفت برأسها الحليق وصوتها الشرس، اشتهرت بآرائها الجريئة حول الدين والحرب وقضايا النساء والقضايا العادلة وكانت مناصرة للشعب الفلسطيني...








غيرت صورة المرأة في الموسيقى في أوائل التسعينيات، وعرفت بموقفها السياسي ضد الكنيسة الكاثوليكية، إذ دعت طوال سنوات لإجراء تحقيق موسع في دور الكنيسة في قضية التستر على إساءة معاملة الأطفال من قبل رجال الدين،وفي 2018، أعلنت اعتناقها الإسلام وغيرت اسمها إلى "شهداء صدقات" رغم استمرارها في الأداء الفني تحت اسم "شينيد أوكونور"...

الفنانة مولودة بإيرلندا عام 1966 وفي سن الـ20 انتقلت إلى لندن وسجلت ألبومها الأول عندما كانت حاملا بطفلها الأول، وقد طلبت منها شركة الإنتاج حينها باعتماد مظهر أنثوي أكثر، مما أثار استياءها،"لقد دعوني لتناول الغداء وقالوا إنهم يرغبون في رؤيتي أرتدي تنانير قصيرة وأحذية ذات كعب عال وأن أترك شعري ينمو".بعد فترة وجيزة، طلبت المغنية من مصفف شعر يوناني شاب أن يحلق رأسها. "لم يكن يريد أن يفعل ذلك، لقد كاد يبكي. أما أنا فقد كنت سعيدة بالأمر"..... "أعتقد أن عليّ القول إن الموسيقى أنقذتني. لقد كنت أمام خيارَي السجن أو الموسيقى. كنت محظوظة".

وقد جعلها رأسها الحليق ونظراتها الثاقبة وصوتها الرقيق نجمة في جميع أنحاء العالم، ودائما ما كانت تقدم حفلات استُنفدت كل تذاكرها.

بسبب السلطة الروحية للكنيسة، ظلت النساء مهمشات،ووصلت إيرلندا الكاثوليكية إلى قمة تمجيد الكنيسة في عام 1979، عندما أصبح البابا يوحنا بولس الثاني أول بابا في التاريخ يزور إيرلندا. كانت أوكونور، في الثالثة عشرة من عمرها حينها، تتذكر جيداً المشاعر الجماهيرية الجياشة. كانت رحلة البابا تعادل رحلة أيرلندا لبريطانيا بعد وفاة ديانا. وأُصِيب الناس بالهوس حينها.انطلقت أوكونور، الفنانة المعقدة والرائعة، إلى عالم الشهرة سنة 1990 بفضل أغنية Nothing Compares 2 U  "لا شيء يقارن بك"، التي كتبها برنس،وألبومها "ذا ليون اند ذا كولرا"،كما عُرفت بإثارتها الجدل في محطات كثيرة من مسيرتها..لكن أهمها هو مواجهة الكنيسة...

كان التحدي يلمع في عيني شينيد أوكونور الخضراوين وهي تحدق في الكاميرات الموجودة في استوديو برنامج "ساترداي نايت لايف" الكائن في قلب مركز روكفلر في مانهاتن، كانت ترفع صورة أمام وجهها. 

لم يرمش لأحدهم جفن ولم ينبس أي من الموجودين بكلمة. يستمر الصخب في الكواليس بلا انقطاع حولها. كانت الصورة لطفل شوارع برازيلي قتل برصاص فرق الموت التابعة للشرطة. إنه يوم 3 أكتوبر عام 1992، كانت أوكونور تتدرب على أداء أغنية "حرب" لبوب مارلي بصوتها في برنامج تلك الليلة. كانت ستستخدم صورة الطفل لتضليل فريق العمل بشكل مدروس. أما عندما تظهر على الهواء، فكانت ستقدم صورة مختلفة تماماً، وسيكون رد الفعل مختلفاً تماماً. بعد مرور ثلاثين عاماً، لا يزال تصرفها في تلك الليلة لحظة حاسمة في حياة المغنية الإيرلندية ومسيرتها المهنية.

لم تكن كراهية الكنيسة للنساء هدف أوكونور الوحيد. كانت تربطها علاقة مؤلمة بوالدتها التي "جردتها من ملابسها وركلتها" عندما كانت طفلة. تقول "كانت والدتي امرأة عنيفة للغاية. لم تكن امرأة سليمة على الإطلاق... كان سبب الإساءة التي تعرضت لها هو تأثير الكنيسة في هذا البلد. والذي أنتج والدتي بدوره. لقد أمضيت طفولتي بأكملها أتعرض للضرب بسبب الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها والدتي. من الممكن أن أقارن إيرلندا بطفل تعرض لسوء المعاملة".توفيت والدتها ماري عندما انزلقت سيارتها واصطدمت بحافلة في جنوب دبلن. كانت تبلغ من العمر 45 سنة وكانت تقود سيارتها متجهة إلى القداس. بعد ذلك، أخذت أوكونور شيئين فقط من منزل والدتها: كتاب طبخ وصورة يوحنا بولس الثاني تلك. تذكر في كتابها: "لقد أزلت من جدار غرفة نومها الصورة الوحيدة التي علقتها هناك على الإطلاق... إنها صورة البابا يوحنا بولس الثاني. التقطت عندما زار إيرلندا في عام 1979". 

في ليلة بث الحلقة، كان ذهن أوكونور مشوشاً عندما وصلت إلى مركز روكفلر. كانت تعيش في نيويورك لفترات متقطعة لعدة أشهر وقد أقامت صداقة مع شخص من أتباع العقيدة الرستفارية يدعى تيري، التقت به في مكان لشرب العصير، لكن قبل فترة وجيزة من البروفات، أخبرها أن عمله الحقيقي كان مهرب مخدرات، وأنه كان يستخدم الأطفال كـ"وسيط للنقل"، كما ادعى أنه مستهدف بالاغتيال من قبل تاجر منافس (لقي تيري حتفه رمياً بالرصاص بعد ذلك بوقت قصير).

كانت أوكونور مستاءة، لكنها مع ذلك قامت بتهريب صورة البابا بكفاءة مذهلة. تقول، "أحضرت الصورة إلى استوديو أن بي سي، وأخفيتها في غرفة الملابس. أثناء البروفة، عندما انتهيت من أداء أغنية "حرب" لبوب مارلي، رفعت صورة لطفل شوارع برازيلي قتل على يد رجال الشرطة...  طلبت من المصور أخذ لقطة قريبة للصورة أثناء العرض الفعلي. لم أخبره بما كنت أخطط للقيام به لاحقاً. كان الجميع سعداء. الطفل الميت في مكان قصي ليس مشكلة لأحد".

ثم جاء موعد بث الحلقة. ارتدت فستاناً أبيض. غنت أولاً "تسبب النجاح في فشل منزلها". قوبلت الأغنية بترحيب عاصف. كتبت أوكونور عن تلك اللحظة: "كنت المفضلة لدى الجميع. الكل يريد التحدث معي... لا يهم أن تقول لي كم أنا فتاة جيدة، لكنني أعلم أنني دجالة".

بعد ذلك، حان وقت أداء أغنية "حرب" - وتمزيق صورة البابا. قالت عن رد الفعل: "حل صمت مطبق ووجوم تام بين الجمهور.. وعندما كنت أمشي باتجاه الكواليس، لم يكن هناك إنسان واحد فعلياً. أغلقت جميع الأبواب. اختفى الجميع. بما في ذلك مدير أعمالي، الذي حبس نفسه في غرفته لمدة ثلاثة أيام وسحب شريط الهاتف..

"تتذكر أوكونور في مذكراتها الصادرة عام 2021 تحت عنوان "تذكرات" Rememberings: "كنت سأغني أغنية (حرب) من دون موسيقى مرافقة. لم يكن أحد يشك في شيء... لكنني في النهاية، لم أرفع صورة الطفل. رفعت صورة البابا يوحنا بولس الثاني ثم مزقتها إلى نتف. صرخت، (حاربوا العدو الحقيقي!)". حبست كلماتها الأنفاس في المكان بينما كانت تطفئ الشموع الموضوعة على طاولة بجانبها،حل الظلام على أكثر من مستوى. قررت شبكة "أن بي سي" حظر أوكونور على الفور مدى الحياة. أمام الاستوديو، رشقها المارة بالبيض في تلك الليلة الدافئة في مانهاتن.وبغض النظر عن دوافعها، فقد أصابت أميركا بالذعر. كان عنوان الصفحة الأولى في صحيفة "نيويورك ديلي نيوز" "رعب عظيم!"،ومقدم البرنامج كاد يصفعها،حتى مادونا -الضليعة في فضائح نجوم البوب- انتقدت أوكونور. وقالت "أعتقد أن هناك طريقة أفضل لتقديم أفكارها بدلاً من تمزيق صورة تعني الكثير للآخرين". عندما تتمكن من إثارة غضب مادونا، أنت تعلم أنك ضربت على الوتر الحساس. بعد أسبوعين، وأثناء إحيائها حفلاً غنائياً تكريماً ل"بوب ديلان" قوبلت بصيحات الاستهجان وفي الواقع اختلطت أصوات الاحتجاج مع صيحات الدعم.

بينما كانت أصوات السخرية تتعالى، قدمت أغنية "حرب" مرة أخرى (كانت الأغنية هي الأهم في ألبومها "ألست فتاتك؟" الصادر حديثاً وتقدم فيه مجموعة من الأغنيات الشهيرة بصوتها). راح صوت أوكونور يتقطع وهي تغني "إلى أن يصبح لون بشرة الرجل أهم من لون عينيه/ أقول حرب". تعالت جوقة الاستنكار. استقبلت نيويورك نداءها للتضامن ضد العنصرية على أنه سخرية. توضح أوكونور في الشريط الوثائقي  "لا مجال للمقارنة" Nothing Compares للمخرجة كاثرين فيغرسون حول حياة وتجربة أوكونور: "كان نصفهم يطلق صيحات الاستهجان، ونصفهم يهتف مؤيداً. إنها أغرب ضوضاء سمعتها في حياتي... إنها تجعلني أرغب في التقيؤ". .

صدمت المغنية الشابة حينها أميركا باحتجاجها السياسي وبطريقة ما، كانت أميركا تبحث عن ذريعة للهجوم على أوكونور. كانت هناك ضجة عندما رفضت السماح بعزف النشيد الوطني الأميركي قبل حفلتها الموسيقية في نيو جيرسي، ثم قاطعت حفل جوائز غرامي عام 1991 احتجاجاً على الحروب الأميركية في الشرق الأوسط وحثت زملاءها الفنانين على الحذو حذوها.

كانت فضيحة البابا نهاية أوكونور كقوة تجارية للرأسمالية المتوحشة،ورمز يروج له وقادر على استقطاب الجماهير في أميركا. لم تزعج قوائم الأغاني بحضورها أبداً أو تؤد أغنياتها في برامج التلفزيون في أوقات الذروة، لكنها في إيرلندا، ألهمت جيلاً من الفنانات اللاتي أصبح لديهن أخيراً نموذج يتطلعن إليه - مغنيات مثل دولوريس أوريوردان من فرقة ذا كرانبيريز لموسيقى الروك، ورويزين ميرفي التي اتخذت منحى أوكونور في رفضها الرضوخ لتوجيهات الصناعة الرأسمالية بما يسمح أو لا يسمح لهن القيام به. لكن مشاعر أوكونور نفسها تجاه الحادثة لم تتقلب إطلاقاً. كانت فخورة بأفعالها. وكتبت في مذكراتها: "يقول الكثير من الناس أو يعتقدون أن تمزيق صورة البابا أعاق مسيرتي المهنية... شعوري حيال ذلك ليس هكذا. أشعر أن وصول أغنيتي إلى المرتبة الأولى أعاق مسيرتي المهنية بينما أعادني تمزيق الصورة إلى المسار الصحيح... لم تدمر حلقة البابا حياتي، بل على العكس، وضعتني على طريق يناسبني أكثر".

كان هذا التحول في المد قد بدأ بالفعل في خريف عام 1992 وفي ماي من ذلك العام، تلقت مكانة الكنيسة الكاثوليكية الإيرلندية ضربة قاضية بسبب الكشف عن أن الأسقف إيمون كيسي -وهو وجه مألوف على شاشات التلفزيون- لديه ابن مراهق من علاقة غرامية أقامها مع امرأة أميركية في السبعينيات. أوكونور التي كانت بعيدة عن الناس المستفزين في وطنها، استغلت عاصفة الغضب المتصاعدة. فالمكان الذي ذهبت إليه  -ورفضت علناً الكنيسة ونفاقها- ستتبع دولة بأكملها خطاها قريباً.لم تكن القوى الكنسية تتفكك في أميركا. كانت الكنيسة الكاثوليكية هناك لا تزال تحظى باحترام كبير... لن يتم تفكيكها إلا بعد 10 سنوات، بفضل صيحة شينيد عندما كشفت صحيفة بوسطن غلوب التستر على الإساءات الكهنوتية في نيو إنغلاند. كانت قبضة الكنيسة الكاثوليكية تزول شيئاً فشيئاً، ببطء ولكن بثبات.امتلكت أوكونور كل شيء، وحققت نجاحا ساحقا لكنها ألقت بكل ذلك بعيدا، وأصبحت منبوذة،بفعل الآلة الإعلامية الرأسمالية التي سخرت للنيل منها وتحطيمها،لتحدثها علنا في أمور لم يجرؤ عليها أحد ورغم كل شيء استمرت، في صنع الموسيقى كدليل على شجاعتها وصلابتها،كانت أسطورة غنائية، وصاحبة موهبة فذة، اختارت أن تسبق عصرها، بأسلوبها الصادم، كمُنشقة ترفض الصمت، وتتحمل ثمن مجاهرتها بآرائها السياسية، ودفاعها عن قضايا أصبحت شائعة بعد تصديها لها

بعد مرور ثلاثين عام، لم تفقد هذه اللحظة الرائعة أيًا من قوتها. كانت شنيد تحتجّ على التستر على الجرائم الجنسية من قبل الكنيسة الكاثوليكية.ولنتخيل الشجاعة التي تحلّت بها للقيام بذلك على الهواء مباشرة على التلفزيون الأمريكي. وكانت محقة طوال الوقت،ومع تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا في جميع أنحاء أوروبا ، قالت شنيد: “إذا كرهني شخص ما كمسلمة، فإن ذلك سيزيد صمودي“.

أكثر ما يعجب المرء في شنيد هو شخصيتها الثابتة. لقد رفضت اتّباع المظاهر الفاسدة لثقافة البوب والشهرة، رافضة إخفاء عمق نضالاتها، لتذكيرنا بأن الظهور بعيوبك لهو إشارة على كمال إنسانيتك حيث قالت"لن يجلب التعري أي شيء سوى الضرر على المدى الطويل ، فالسماح باستغلالك ليس بأي حال تمكينًا لنفسك أو لأي فتيات أخريات ، بالنسبة لك ذلك يوصل رسالة خاطئة مفادها أن قيمتك وسعيك لنيل التقدير، يأتيان بناء على التعري وجاذبيتك الجنسية أكثر من موهبتك الواضحة".

سخرت شنيد صوتها الصادح لخدمة النضال العالمي ضد الاضطهاد، من وطنها أيرلندا حتى الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وفي فلسطين.حيث قالت:"لا يوجد أي شخص عاقل، بما في ذلك نفسي، لا يكنّ داخله سوى التعاطف مع محنة الفلسطينيين. لا يوجد أي شخص عاقل على وجه الأرض يقبل بأي شكل من الأشكال، ما يرتكبه الصهاينة“.

 لم تخف أبدًا من قول الحقيقة بوجه السلطة،

بغض النظر عن العواقب،سنفتقدها،لقد ماتت شنيد أوكونور. سنتذكرها دائمًا لشجاعتها وإصرارها وأخلاقها وقولها الحقيقة بوجه السلطة الدينية والدنيوية ولصوتها الملائكي.

الزمان والايام برئت أوكونور في النهاية،وكان لصيحتها وجرأتها تأثير.لكن داخل العالم المسيحي تم رفضها باعتبارها مختلة، حالها حال النساء اللاتي يعلين أصواتهن منذ فجر التاريخ.


مجيد مصدق

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: رحيل الفنانة الإيرلندية الشهيرة شينيد أوكونور...المسلمة المتمردة.. التي صفعت الكنيسة Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top