04‏/03‏/2023

قصة : المنزلق / بقلم الكاتب الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني ...............

قصة : المنزلق / بقلم الكاتب الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني

...............

سار الأستاذ محسن في الممر الطويل المؤدي إلى صفه بخطوات بطيئة مترددة , كانت تلك هي تجربته الأولى في عالم التدريس ,

و لما كان لا يعرف ماذا يتعين عليه أن يفعل حين يدخل إلى الصف فقد حاول جهده أن يبعد تلك اللحظات قدر ما يمكن ...

في الليلة الماضية تقّلبَ على فراشه حتى الصباح و هو يفكر في الأمر : إن من العسير على المرء أن يقف أمام الناس .. و لماذا ؟

ليّعلمهم ! و منْ أنتَ لتفعل ذلك ؟ لقد عشتَ حياتك البائسة دون أن يعلمك إنسان أي شيء ينفعك , اتعتقد أنه بوسعك أن تعلم الناس ما

ينفعهم ؟ أنت نفسك آمنتَ بأن المدرسة هي آخر مكان يتعلم فيه الرجل الحياة , فما بالك الآن و قد صرتَ مدرّساً فيها ؟


في الصباح حملتَ نفسك إلى غرفة المدير , و جلستَ هناك تستمع إلى بقية الأساتذة و هم يناقشون الأمر الذي شغلك , و لكن من زاوية

أخرى ..

- ماذا عسانا نفعل في الصفوف إذا كان الصغار دون كتب ؟


و أجاب المدير من انفه بإختصار :

- أي استاذ قدير يعرف كيف يشغل حصته دون كتب !

ثم أنكفأ شارحاً بلؤم :

- تطلب من أحد الأطفال أن يشغل الحصة عنك إذا عجزت ...

قال الأستاذ محسن لنفسه : (( ها هو ذا مدير مدرسة يريد أن يلقن أساتذته درساً بالإنتظام و الطاعة منذ اللحظة الأولى , لقد قبض الأقساط قبل أسبوع و عليه الآن أن يقبض أرواحنا ))

جرع الشاي و قام ..

الممر الطويل مملوء بصخب الأطفال و صياحهم , و الأستاذ محسن بخطواته الثقيلة يحسّ بأنه انما يسير في دوامة تؤدي إلى مستقبل قميء مترع بالضجة و السخف .. الضجة و السخف و ليس غيرهما !


- لدي قصة جميلة يا استاذ ! ..

صاح طفل كان مكوماً على نفسه في آخر مقعد فقدم حلاً ملائماً لذلك الموقف المضطرب . و قبل أن يوافق الأستاذ محسن على الإقتراح كان الطفل قد صار خارج صفوف المقاعد , و واجه رفاقه ببنطال قصير أوسع من حجمه , و قميص ذي قماش نسائي عتيق , و شعر أسود غزير يصل متهدلاً إلى حاجبيه ...


كان والدي رجلاً طيباً .. كان شعره شائباً , و كانت له عين واحدة أما عينه الأخرى فقد اقتلعها بنفسه حين كان يخيط نعلاً سميكاً لحذاء رجل ضخم , لقد كان مكبّاً على الحذاء يحاول

جاهداً أن يُدخل الإبرة الكبيرة في النعل , إلا أن النعل كان قاسياً جداً , ضغط كل ما في وسعه , بلا فائدة , ضغط أكثر , لا فائدة , ثم رفع الحذاء إلى صدره و ضغط بكل قوته فخرجت الإبرة فجأة ً من الناحية الأخرى و دخلتْ في عينه ..


كان أبي رجلاً طيباً , لم تكن لحيته طويلة , و لكنها لم تكن قصيرة أيضاً , كان يعمل كثيراً , و كان يجيد عمله , و كان لديه دائماً الكثير من الأحذية ليصلحها و يجعلها ملائمة من جديد .


و لكن أبي لم يكن يملك دكاناً صالحة , و لم يساعده أي انسان في عمله , كانت دكانه عبارة عن صندوق من الخشب و الصفيح و الورق المقوى , و لم تكن تتسع إلا له و لعدد من المسامير و الأحذية و السندان , و فيما عدا ذلك لم يكن يوجد متسع لذبابة , و كان يتعين على الزبون أن يقف خارج الصندوق . إذا أرادَ أن يصلح حذاءه ..


كان الصندوق هذا موضوعاً على المنحدر هضبة يعلوها قصر رجل غنيّ , و لم يكن بوسع أي انسان أن يكتشف وجود هذا الصندوق إذا بحث عنه من شرفة قصر الرجل الغنيّ . ذلك أن الحشائش كانت قد نبتت فوق سطحه التَرب , و لذلك فإن أبي لم يكن يخاف من أن يكتشف صاحب القصر مخبأه فيُطرد , صاحب القصر لم يكن ينزل من قصره أبداً , كان الخدم يقومون بإيصال كل ما يشتهيه إلى قصره , و قد اتفق أولئك مع أبي على أن يكتموا السرّ عن مخدومهم مقابل أن يصلح لهم أحذيتهم مجاناً ! .


لقد واظب أبي على عمله دون خوف أو تردد , و كان الناس يكتشفون أنه يستطيع إصلاح الاحذية ببراعة حتى يجعلها تبدو و كأنها جديدة تماماً , و لذلك فإن مزيداً من الاحذية كان يأتيه كل يوم , و كان يمضي نهراه , و نصف ليله في عمل متواصل . و كان يقول لأمي :

(( غداً سيذهب الأولاد إلى المدرسة )) .

و كانت أمي تقول له : (( إذن سوف تستريح قليلاً من عناء العمل )) .


عاد الطفل إلى مكانه , إلا أن رفاقه لم يحركوا ساكناً , فصاح الأستاذ محسن :

- لماذا لم تصفقوا لصديقكم , ألم تعجبكم القصة ؟

- نريد أن نعرف بقيتها ...

- هل توجد بقية لقصتك ؟


قبل شهر أو أكثر تكوّمَ عنده عمل كثير فلم يعد بوسعه أن يعود إلى البيت , و كانت أمي تقول أنه يعمل ليل نهار دون أن يخرج من صندوقه . لا وقت عنده للخروج . و كان الرجل الغني يجلس طوال النهار و طول الليل على شرفته يأكل موزاً و برتقالاً و لوزاً و جوزاً , و كان يلقي بالقشور , عبر سياج شرفة قصره إلى منحدر الهضبة , و ذات صباح كانت الهضبة قد امتلأت بالقشور , و لم يستطع الخدم أن يجدوا صندوق أبي بين كل تلك القشور . أمي تقول أنه كان منهمكاً بالعمل إلى درجة أنه لم ينتبه أبداً إلى كل ما كان يُلقى فوق صندوقه , كما اعتاد أن يفعل , أغلب الظنّ أنه ما زال جالساً في صندوقه يعمل جاداً في إصلاح ما لديه من الأحذية كي يسلمها في موعدها و حين ينتهي من ذلك سوف يعود إلى البيت ... و لكنني اعتقد أنه مات هناك .


صفّقَ التلاميذ , و عاد الطفل إلى مكانه فجلس بهدوء , و عادت العدسات الستوّن تحدق , براقة لامعة , بالأستاذ محسن ..

اقتاد الأستاذ محسن الطفل إلى غرفة المدير , و في الطريق سأله :

- هل تعتقد حقاً أن أباك مات ؟

- أبي لا يموت , لقد قلتُ ذلك فقط كي انهي القصة , و لو لم أفعل ذلك لما انتهت قطّ , بعد شهور سيأتي الصيف ,

و سوف تجفف الشمس أكوام القشور حتى يخفّ ثقلها فيستطيع أبي أن يزيحها من فوقه و يكرّ عائداً إلى الدار ..

وصل الأستاذ محسن إلى غرفة المدير و قال له :

- لدي في الصفّ طفل عبقري . اعتقد أنه رائع , دعه يسمعك قصة أبيه ..

- ما هي قصة أبيك ؟

كانت دكانه صغيرة جداً و كان بارعاً , و ذات يوم وصلت شهرته إلى صاحب القصر الذي كان يطلّ فوق دكانه الصغيرة ,

فأرسل له بكل ما لديه من الأحذية العتيقة ليصلحها و يعيدها جديدة مرة ً أخرى . لقد اشتغلَ جميع الخَدم في نقل تلك الأحذية

إلى الدكان الصغيرة لمدة يومين كاملين , و حينما انتهوا من نقلها كان والدي قد اختنق تحت أكوامها , فالدكان الصغيرة لا

تتسع لكل تلك الأحذية ..

وضع المدير ابهامه في جيب صدّارته , و فكر قليلاً ثم قال :

- هذا طفل مجنون , يجب أن نرسله إلى مدرسة أخرى .

قال الطفل :

و لكنني لستُ مجنوناً , اذهب إلى قصر الرجل الغنيّ و انظر إلى احذيته فستجد عليها اطرافاً من لحم أبي , بل ربما

تجد عينيه و انفه في نعل حذاء ما ... اذهب إلى هناك ..


قال المدير :

- إنني اعتقد أنه طفل مجنون ..

أجاب الأستاذ محسن :

- و لكنه ليس مجنوناً , أنا نفسي أصلحتُ حذائي عند والده , و حينما عدتُ لأصلحه مرة ً أخرى قالوا لي أنه قد مات .

- كيف مات ؟

كان يدق نعلاً لحذاء عتيق , و لقد دقّ يومها كثيراً من المسامير في ذلك النعل كي يجعله متيناً تماماً , و يحن انتهى من ذلك وجد

أنه قد دقّ أصابعه بين الحذاء و السندان , تصوّر ! كان قوياً إلى حد كان يستطيع معه أن يثقب السندان الحديدي بمساميره , و لما

حاول أن يقوم لم يستطع , كان مثبّتاً إلى السندان بإحكام , و لقد رفض المارة أن يساعدوه , و بقي ملصوقاً هناك إلى أن مات ...


نظرَ المدير إلى الأستاذ محسن من جديد , كان واقفاً هناك إلى جانب الطفل , ملتصقيْن ببعضهما كأنهما شيء واحد , و هزّ رأسه

مراراً دون أن يقول شيئاً , ثم عاد , فجلس في كرسيه الجلدي الوثير و أخذ يراجع أوراقه فيما كان يرمق الأستاذ محسن و الطفل

بطرفي عينيه بين الفينة و الأخرى .


غسان كنفاني

بيروت - 1961

............... .............


غسان كنفاني هو روائي وقاص وصحفي فلسطيني، ويعتبر أحد أشهر الكتاب والصحافيين العرب في القرن العشرين. فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية.

ولد في عكا، شمال فلسطين، في التاسع من نيسان عام 1936م، وعاش في يافا حتى أيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم إلى سوريا. عاش وعمل في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك في بيروت منذ 1960 وفي تموز 1972، استشهد في بيروت مع ابنة أخته لميس في انفجار سيارة مفخخة بتخطيط من الموساد


أصدر غسان كنفاني حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني. في أعقاب اغتياله تمّت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة. وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات. وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً، وتمّ إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة. اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين. وما زالت أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 تحظى اليوم بأهمية متزايدة. 


على الرغم من أن روايات غسان وقصصه القصيرة ومعظم أعماله الأدبية الأخرى قد كتبت في إطار قضية فلسطين وشعبها فإن مواهبه الأدبية الفريدة أعطتها جاذبية عالمية شاملة. 

- من أعماله:

•مجموعات قصصية أولها (القميص المسروق)

•روايات : موت سرير رقم ١٢، رجال في الشمس، أرض البرتقال الحزين، عائد إلى حيفا، أم سعد، عالم ليس لنا، الشيء الآخر

• أبحاث أدبية خاصة بالكتابة العربية والشعر 

_جوائز حصل عليها: 

جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن روايته(ماتبقى لكم)

جائزة منظمة الصحافة العربية 

جائزة اللوتس 

وسام القدس

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: قصة : المنزلق / بقلم الكاتب الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني ............... Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top