جورج مهنّى : للمرّة الألف يشاء الظرف أن أكتب عن مارسيل خليفة عن التزامه كتبت ، عن أدائه ، عن مشروعه الثقافي الشامل كتبت . في الصحف ، في الأبحاث الجامعيّة ، في الندوات ، في حفلات التكريم . . . وبصراحة ، سئمتُ ! سئمت النقد ، سئمت البحث ، سئمت برودة الأكاديمي وموضوعيته ، ولم يَبْقَ لديّ ، بعد كل هذه السنوات ، سوى رغبة الصديق في التمشّي على ضفاف الذاكرة - ذاكرتنا المشتركة - أركضُ على حناياها حيث أشاء ، أقف في أفيائها حين يطيب لي ، وأنحني كيفما يحلو لي فوق مرايا بحيرات سرنا على مائها كالأنبياء ، فحفظت صوراً لنا وبعضاً من ملامح وجوهنا .
ليس الزمان نهراً كما يدّعي هِرقليط وبرغسون أو أبولينير . إنما بُرَكٌ متناثرة في السهل كشظايا مرآة . كلُّ شظيّة تحتفظ بإحدى ملامحنا ، تومض إلينا بها ، أحياناً ، وبصوت خافت ، وبرموز مشفّرة . وإن أعادتها لنا ، فللحظة ، وعلى سبيل الاعارة ، وما تلبث أن تستعيدها كما لو كانت ملكاً لها .
سأجمع اليوم ، ولو أدمَت يدي ، بعضاً من تلك الشظايا ، علّني بجمعها أرمم ، كطفل أمام رقعة Lego مرآة وجه صديقي المتناثرة صوراً وظلالاً في الذاكرة ، في الأدراج ، بين صفحات الكتب أو صفحات وسائل التواصل الاجتماعي . لا شظيّة تشبه أختها . لكن قاسماً مشتركاً يجمع بين الملامح المبعثرة : الجرأة ! الجرأة التي لم أجد لها مثيلاً في أيّ من الوجوه التي تتقاذفها أمواج البحيرة . جرأة أصدقائنا - أصدقاء البدايات - كانت إمّا وقحة مُحرجة ، أو " دون كيشوتيّة " هشّة ، أو عاتية عمياء . . .
أمّا جرأة مرسيل ، حتّى عندما كان مراهقاً نحيلاً ، حليق الذقن ، طريّ العود ، فكانت هادئة ، رصينة ، نبيلة ، تستلهم حدسّا من النّادر أن يخطىء .
ها هي الكَرةُ الأولى من المرآة تعكِس صورة ولدٍ صمّم أن يقتلع أوّل حجر في الجدار . جدارٌ بناه مجتمعٌ محافظٌ وسيّجَه بالشّوك والفزّاعات إقطاعيُو الدين والسياسة . جدارٌ أرادهُ المحيط القريب سوراً منيعاً يحمي الأولاد من خطر اللا مألوف .
بالحقيقة ، ما كان يدور في خاطر الوالد الصافي النيّة ( حبيبي أبا مارسيل ، حيث أنت !!! )
جورج مهنّى - مجلّة نزوى الثقافية