الثلاثاء، 9 أغسطس 2022

عبد المالك أشهبون:وداعا سي عبد السلام حيمر!

 عبد المالك أشهبون++  عبد السلام حيمر 

صديقاتي أصدقائي أينما كنتم، أقترح عليكم اليوم نصًّا حزينا، ذا طابع تأبيني، نستعيد من خلاله ذكرى المرحوم عبد السلام حيمر...فحين التمس مني صديقي السي عبد السلام الرجواني أن أُفْرِد حلْقة خاصة للفقيد، كان الطَّلب في محله؛ لأن سيرة المرحوم كانت حاضرة بقوة في تدوينتيَّ الأخيرتين، وبالتالي كان من الواجب أن نقول كلمتنا في حق الراحل...


وداعا سي عبد السلام حيمر!

حديثنا في هذا المقام الحزين لا يتأسس سوى ركام التداعيات النوستالجية، والذكريات المشتتة التي تؤججها المواجع، وتُوطِّدها سِيَر رجالات ظهر المهراز: الحي العسكري والحرم الجامعي... ولا يسعنا إلا أن نستعيد ذكرى أعز من سكنوا ديار ظهر المهراز التي كانت ديارنا ذات يوم، ونسترجع أطياف من كانت لهم منزلة في القلب والروح، مع حنين عارم إلى لقياهم عندما عز اللقاء...خصوصا حينما يحاصرنا خصب الماضي، ويؤلمنا جفاف الحاضر، وضبابية المستقبل، حيث تملأ قلوبنا الآهات الحرَّى، وتنهمر فيها الدموع التي تفيض في وصف لحظات الوداع...


المشهد الأول: في حضرة رجل استثنائي بكل المقاييس

في هذه اللحظات الحزينة، يستحضر أبناء حي ظهر المهراز شريط ذكرياتهم الحافل بصور المرحوم السي عبد السلام وسيرته، وكل واحد منهم يمكن أن يحكي ما لا يحصى عن شمائله وخصاله الحميدة، وعن قيمه العليا وأخلاقه الرفيعة، وصرامته حد القساوة مع نفسه، وحتى مع الآخرين ...

أما ما تبقى من صور المرحوم سي عبد السلام في مخيلتي، فتتمثل في كونه كان أحد الذين حفروا عميقا في وجداني، وعلموني سر الإمتاع والمؤانسة واللذة التي يستشعرها كل من يرغب في الانتماء إلى آل الحرف، وأنا ما زلت بعدُ تلميذا يافعا، غضًّا طريّا، وغِرًّا بدون تجربة في الحياة، وبصورة لم أكن أدرك كنهها ولا سرها... ولكن سأدرك فحواها بجلاء، ذات يوم مميز، حينما وصلتني روايته الموسومة بعنوان: "خطاطيف باب منصور" (2003).

بطبيعة الحال كانت فرحتي بهذه الرواية عارمة، وتضاعفت الفرحة فرحتان بشهادته الغالية بحرارة خط يده في حقي، حينما كتب في الإهداء أنه: "كان واحدا من الذين تنبئوا له منذ أن كان تلميذا يافعا بمستقبل متألق في مجال الأدب والفكر...".

والواقع أنني لا أتذكر بالضبط لحظات اليفاعة التي يتصورها عني المرحوم، وهو المثقف الذي كان يفرد سلطته الرمزية على رفاق دربه، وأقرانه قاطبة؛ لأن شخصيته لم تكن مشاعا للعموم، ولم يكن كل من هب ودب بمستطاعه أن يقتحم عليه خلوته، ويحادثه أو يجالسه أو يصاحبه، وبالأحرى أن يكون حامل أسراره... وهو بهذا الطبع المنزاح، يمكن أن يُصنَّف في سلالةٍ نادرة على عتبة الانقراض في زمننا هذا! 

كل ما أتذكره في هذا المضمار يعود إلى ما علِق بذاكرتي في أزمنة السبعينيات، حيث كانت مراتع الغابة تحتضننا بسخاء باذخ، خصوصا عندما تلفظنا البيوت القصديرية عندما تتحول أحشاؤها إلى أفران حقيقية من شدة حرارتها في فصل الصيف، فقد كنا لا نجد ملاذا أثيرا غير الفزَعِ إلى عالم الغاب، نطبق فلسفة جبران خليل جبران بدون علم بفحواها يومها.

ذكريات غابة ظهر المهراز تداعب مخيلتي.. تلتصق بأهداب عيني.. وتأبى مفارقتي.. 

ذكرياتٌ قُدَّتْ من رحيق المحبة الدافئة والصحبة البهية.. 

ذكريات تحملني على استعادة لحظات بعيدة، تضم أحبة سكنوا القلب والروح. 

ذكريات تأخذني للأحبة الذين غادرونا إلى أرض البقاء، وكنت أتمنى لو أطالوا البقاء ولو قليلاً. 

ذكريات أستعيد من خلالها سيرة أصدقاء وصديقات أبعدتني عنهم مشاغل الدنيا في وطننا الحبيب، وسيرة المسافرين خلف البحار.

نحتاج، إذاً، إلى حاسة سادسة أو سابعة، تذكرنا بعبق أريج أرجاء الفضاء المخملي الساحر، حيث كان الفتى يقضي ساعات في الاستمتاع بالطبيعة التي تغدق عليه بدون حساب، من خضرتها الأخَّاذة، وتغاريد أطيارها الشادية، وروائح نباتاتها التي تعبق في الأرجاء. 


المشهد الثاني: صورة راهب في محراب الغابة الظليلة 

يتأمل الفتى الذي كنته يومها في بساط المكان الأخضر كما عرفه ذات طفولة: في غدوته، وفي عز الظهيرة كما في لحظات الغروب، مستعيدا أوجه وأطياف الذين عمَّروا المكان، بسموِّ كعبهم العالي في المعرفة والعلم والنضال، أو بشغبهم الجميل، أو بمواقفهم الطريفة والعجيبة، ولم لا بحماقاتهم التي لم تكن لتخطر على بال أحد.

في فضاء الغابة الكثيفة آنذاك، تلوح لنا من بعيد صورة راهبٍ يتفيَّأ ظل شجرة أوكاليبتوس صغيرة تظلله، وهو في خلوة تامة، وفي حالة توحد قصوى مع الوجود الطبيعي. راهبٌ منهمك في حضرة جلالة "الكتاب" حينما كانت له جلالة ومهابة. 

أحيانا يخيل إلي أنه، بحكم تواجده المتكرر في المكان نفسه، بات كغصن من تلك الشجرة، ومن فرط عشقه للأرض أطلقَ عروقه في التراب.. وكأنه يتمسَّح بجذع الشجرة كي يجدد طاقات الروح، متى لحقت به الخيبات في حلبة النضال، أو رغب في الارتقاء بفكره وإبداعه، يستمد من عالم الغاب زاده الخصيب، غير آبهٍ بالدمى البشرية التي تتحرك حوله.

آه كم هو جميل أن تكون كطائر بين أغصان تلك شجرة، فللناس في الغابة ما يشتهون، ولك في عشِّك الخفيِّ أعينٌ ترى الجمال والصفاء والعوالم المتجددة، لزوم تجدُّد الحياة نفسها. 

كان شغفي الطفولي يدفعني إلى استكشاف عوالم قاهر الحر هذا وهو في محرابه المهيب يومها، فكنت أقترب منه رويدا رويدا بدون أن ألفت انتباهه في البداية، وبعدها أبدأ في التلصص على بعض حاجاته المبعثرة في محيط جلسته من أوراق ومجلات وكتب.. أسترق النظر في غلاف الكتاب الذي يؤانس وحدت الراهب، وعندما ينتبه لوجودي فجأة من حوله، ويدرك مدى تطفلي على عوالمه، كان يدعوني بلطافة ومودة إلى مجالسته، خلالها يزداد شغفي في سؤاله أكثر فأكثر، وتكبر جسارتي في التعرف على ما يقرأه.

يسأل الطفل الذي كنته يومذاك، راهب الكتاب، بدافع فضولي جارف لمعرفة ما يقرأه، فيما كان المرحوم يجبين بأجوبة لا أتذكر معناها وفحواها، وكلما تجدد لقائي العفوي به، كان هنالك دائما تأجيل لإرضاء فضول هذا الطفل الذي كنته، وهو ما كان يزيد من تلهفي نحو استكشاف عوالم الكتاب التي كنت أعتقد أنها ستمكنني، بعد ذلك، من الارتقاء إلى عالم الكبار مثل سي عبد السلام...

وبمرور الزمن وتعاقب الأجيال، أدركت سرّ انطواء الراهب (سي عبد السلام)، ونأيَه بنفسه عن مصاحبة كل من هب ودب، فلم يكن ذلك غطرسة منه ولا تكبرا، وإنما كان طبعا متطبعا استقر في النفس، يحمله صاحبه معه أينما حل وارتحل، وكأنه يحمل صليبه على ظهره وهو سائر في طريق العذاب.. فقد كان صاحبه الحميم هو الكتاب، كأنما أدرك سي عبد السلام الفحوى من مصاحبة الكتاب على حد تعبير الجاحظ حينما قال: "فهو نعم الجليس في ساحة الوحدة، ونعم الجليس في دار الغربة ونعم القرين والدخيل والزائر والنزيل"...

وبعد مرور الزمن، عرفت كذلك، أن خلف هذه الوداعة الإنسانية النبيلة التي يحملها سي عبد السلام، يقبع رجلُ مبادئ وقيمٍ، مناضلٌ حديدي صارم من عيار ثقيلٍ، وهو المتكتّم على أسراره الخاصة والعامة مثل أكمام الورد، حيث كان على درجة عالية من الحيطة والحذر فيما يأتيه من سلوكات وأفعال، زمن تجربة اليسار السرية التي كان للنضال فيها ثمن باهض، لا سبيلا للانتفاع والوصولية... 

وبعد مرور ردح من الزمن، أدركت، أيضا، أن ذلك الرجل الذي كنا نصادفه هنا وهناك في غابة ظهر المهراز أو في الحي، غدا من أبرز كتاب التنوير في وطننا العربي، بل أصبح مدافعا شرسا عن الحداثة والتحديث من أجل التصدي لـ "مدونة السلوك" الجديدة والغريبة التي بدأ يرسخها شيئا فشيئا، فقهاء الظلام الذين باتوا يزحفون الآن على الأخضر واليابس، وعلى ما تبقى من مواقع النور في عالمنا العربي...

آخر لقائي بالمرحوم كان بالمصادفة في الشارع الرئيس بباب الغول ظهر المهراز، حينما فاجأني، بتواضعه الجم، وأخجلني حين التمس مني بأدب الكبار، وفي تواضع عز مثيله، أن أراجع الجزء الثاني من روايته الرائعة "خطاطيف باب منصور".. كان وقع الملتمس كبيرا على كاهلي الصغير؛ لأنني أعرف أن الرجل لا يحتاج إلى ناقد شاب آنذاك كي يراجع ما كتبه مبدع وأكاديمي كبير من عيار السي عبد السلام...

 مضى زمن لم أعد أرمقه كما كان عليه الشأن في سابق الأوقات، فقد تبدلت شروط حياته وحياتي، لكن أخباره كانت تأتيني أول بأول من إخوانه الذين كانوا من أصفياء الدرب وما يزالون، استجلاءً لخبرٍ واستعلاماً لحالٍ.


المشهد الثالث: سرطان خبيث أنهك الجسد وكُتُب تنوير خلَّدت الروح 

بعد أيام معدودات من رحيله عن دنيانا عرفت أن سي عبد السلام، هو كذلك ذلك الرجل الذي ظل صامدا في وجه المرض الخبيث الذي لا شك أنه يمهل ولا يهمل... فقد أبدى رباطة جأش يحسده الأصحاء عليها قبل المرضى.. لم ينل منه المرض القاتل قيد أنملة؛ لأنه أدرك فحوى الحكمة الأثيرة القائلة: "لا يقهر الموت غير الكتاب"، والكتابة كما هو معروف قاهرة للموت ومخلدة لصاحبها حتى في غيابه الجسدي، ففي ذروة مصارعته للمرض العضال ظل المرحوم معتكفا على القراءة والترجمة خصوصا بلا هوادة، أوليس هو القائل على لسان إحدى شخصيات روايته "خطاطيف باب منصور": "عندما أختار الموت فأنا أختار في الحقيقة حياة أرقى لا لذاتي فقط، بل للإنسانية جميعا"...

أقول في الأخير، إن مجال الفكر والفلسفة والتاريخ ربح عَلَمًا كبيرا من أعلام الفكر والثقافة النادرين في وطننا العربي، في حين كانت خسارة الإبداع فادحة فيه ولا تعوض... ومع ذلك لم يكن هذا التخصص ليحول بينه وبين استشراف تخصصات أخرى، فقد أنفق الراحل جهدا سخيا في الكتابة الإبداعية: شعرا ومسرحية ورواية. وفي كل ما قدمه لنا في هذا المجال بعض من العزاء. 

وهذه الخصال الحميدة التي تطبع المرحوم جعلتني مديناً له بالشيء الكثير...ذلكم هو السي عبد السلام كما عايشته في حينه، وذلكم ما تبقى من حنين جارف لنظير هؤلاء الكبار بعد أن رحلوا عن دنيانا، ونحن في أشد الحاجة لأمثالهم: فكرا وأخلاقا والتزاما وأدبا وتواضعا...فطوبى للسي عبد السلام في حضوره الأبدي من خلال رأسماله الرمزي...


المصدر: عبد المالك أشهبون


  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات
Item Reviewed: عبد المالك أشهبون:وداعا سي عبد السلام حيمر! Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top