مقال مجلة #القوافي:
تلازم الشعر والروح منذ فجر التاريخ، وظل لعصور جزءا من تجليات دواخل الإنسان وأعماقه الأكثر غموضا، ليصبح أكثر من مجرد وسيلة تعبير عادية، ويتجاوز اللغة إلى ما وراء اللغة، ويرصد كل تحولات الحياة بكل مدلولاتها الفلسفية والنفسية والاجتماعية، ومثلما ارتبط الشعر بالحياة فقد ارتبط بالموت أيضا بوصفه سرا من أسرار الكون، غير أن الأكثر غرابة من حضور الموت في النصوص الشعرية العالمية بشكل عام والعربية بشكل خاص، هو حضور الشعر عند حضور الموت وفي لحظات وداع الشعراء للحياة الدنيا.
فالباحث في ديوان العرب، سيجد كثيرا من الشعراء الذين قالوا أبيات أنهوا بها مسيرتهم وظلت تحكي عن ملابسات موتهم حينا، وتروي حينا آخر مشاعرهم الأخيرة، ويمكن أن نستعرض بعض النماذج من هؤلاء في رحلة سريعة نعبر بها بين أزمانهم ونصوصهم الخالدة.
1.العصر الجاهلي:
امرؤ القيس ( 443م – 540 م):
لا شك أن الشاعر الشهير والملك الضليل امرؤ القيس كان ولا يزال أيقونة شعرية خالدة في المدونة الأدبية، ولعله أول من رثى نفسه – عكس ما يشاع- كونه توفي عام 540 ميلادي، وقيل أنه توفي بالسم، وقد قال أبياته الشهيرة في رثاء نفسه حين دنا أجله ورأى قبر امرأة غريبة:
أجارتنا إن الخطوب تنوب
وإنى مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا
وكل غريب للغريب نسيب
كما قيل إن آخر أبياته قبل موته كانت تلك التي قال فيها:
لَقدْ دَمَعتْ عَيْنَايَ فِي القَرِّ والقَيْظِ
وهل تدمعُ العَينانِ إِلاَّ مِن الْغيظِ
فلَّمَا رَأيتُ الشَّرَ ليسَ بِبَــارِحٍ
دعَوتُ لِنَفْسِي عِندَ ذَلكَ بِالْفيظِ
المهلهل (443 م-531م):
أما المهلهل فهو بكل تأكيد غني عن التعريف، اسمه عدي بن ربيعة التغلبي وهو بطل من ابطال حروب الجاهلية وخال امرؤ القيس، غير أن قصة مقتله ترتبط عند بعض الرواة بأبيات شعر أخيرة قالها عندما هم عبداه بقتله غدرا، إذ طلب منها أن ينقلا لأبنائه قوله " من مبلغ الحيين أن مهلهلا / لله دركما ودر أبيكمــا " ولم يفهم العبدان البيت ولكنهما نقلاه، فما إن سمعته ابنته ( وقيل أخته) حتى أكملتها وصرخت:
من مبلغ الحيين أن مهلهلا
أمسى قتيلاً في الفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكمــا
لا يبرح العبدان حتى يقتـلا
ورغم أن القصة من المشكوك في صحته، إلا أنه يمكن القول إن المهلهل قد انتقم من قاتليه بعد موته، وكان أول من فعل ذلك في التاريخ مثلما كان أول من كتب قصيدة في تاريخ الشعر العربي.
عبد يغوث ( ؟؟؟- 565 م)
اسمه الكامل عبد يغوث بن الحارث، شاعر جاهلي كان سيد قومه وله صيت واسع في عصره، وقد قامت حرب بين بني تميم وقومه وكان قائدهم في ما يعرف تاريخيا باسم يوم الكلاب الثاني، فأسره أعداؤه وربطوا لسانه لكي لا يهجوهم، ثم قرروا قتله، وحين عرف بأنه ميت لا محالة رغم كل محاولاته الإفلات وفداء نفسه بالمال، طلب منهم أن يتركوا له حرية قول الشعر وأن يقتلوه بطريقة كريمة، فقطعوا شريانه وفكوا رباط فمه، فأنشد قصيدته الأخيرة التي مطلعها:
أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفي اللَّوْمَ ما بِيَـا
وما لَكُما في اللَّوْم خَيْـرٌ ولا لِيَـا
أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلاَمَةَ نَفْعُها قليـلٌ
وما لَوْمِـي أَخِـي مِـن شِمَالِيَـا
فَيَا راكِباً إِمَّا عَرَضْـتَ فَبَلِّغَـنْ
نَدامَايَ مِن نَجْـرَانَ أَنْ لا تَلاَقِيَـا
يزيد بن الخذاق الشني:
هو يزيد بن الخذاق الشني العبدي الأسدي، شاعر عربي جاهلي من القرن السادس، اشتهر بهجائه الملك النعمان بن المنذر، فأرسل في إثره جنوده لقتله، وقد أورد ابن قتيبة الدينوري في كتابه "الشعر والشعراء" اسم بن الخذاق في الجزء الأول ص 374، وروى عن ابن عمرو بن العلاء أن هذا الشاعر هو أول من رثى نفسه حين أدرك أنه مقتول لا محالة، غير أني لا أرجح هذا القول لابن قتيبة، فحين نراجع التواريخ، سنجد أن النعمان بن المنذر قد عاش في الفترة بين 528 ميلادي و 609 ميلادي وكان معاصرا لعمرو بن المنذر ( 554م-569م) ، وهذا يعني أن ابن الخذاق قد مات بين 554 م و 569م، في حين أن امرؤ القيس قد مات عام 540 ميلادي – وسبقه إلى رثاء نفسه-، أي قبل ميلاد النعمان وقبل موت ابن الخذاق وكتابته أبياته الرثائية التي يقول فيها:
هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ
أَمْ هَل لهُ من حِمَامِ الموتِ من رَاقِ
قد رَجَّلُونِيَ وَما رُجِّلْتُ من شَعَثٍ
وأَلْبَسُونِي ثِيَاباً غَيْرَ أَخْلاَقِ
ورَفَعُونِي وقالوا: أَيُّمَا رَجُلٍ
وأَدْرَجُونِي كأَنِّي طَيُّ مِخْرَاقِ
وأَرْسَلُوا فِتيةً من خَيْرِهمْ حَسَباً
لِيُسْنِدُوا في ضريحِ التُّرْبِ أَطْبَاقِي
هَوَّنْ عَليكَ وَلا تَوْلَعْ بإِشْفَاقِ
فإِنَّما مالُنا لِلْوَارِثٍ الباقي
طرفة بن العبد (543م – 569م )
ولا يمكن الحديث عن العصر الجاهلي ولا عن الصعاليك دون ذكر أحد أهم الأسماء في تاريخهم، وهو طرفة بن العبد الذي قتله ملك الحيرة بعد ان هجاه بحيلة ماكرة، وارسل معه رسالة قتله إلى البحرين حيث سجن، فلما علم أنه هالك لا محالة أنشد يقول:
ألا اعتزليني اليوم خولة أو غضي
فقد نزلت حدباء محكمة القبض
أزالت فؤادي عن مقر مكانه
وأضحى جناحي اليوم ليس بذي نهض
فقد كنت ُ جلدا في الحياة مدرّنا
وقد كنت لباس الرجال على البغض
2- العصر الإسلامي: ( 622 م-661م)
عروة بن حزام ( ؟؟؟- 650 م):
لم يكن عروة بن حزام شاعرا فقط، بل كان أحد أشهر العشاق في التاريخ العربي، وعرف بحبه الجنوني لابنة عمه عفراء التي رفض أبوه تزويجها له بسبب فقره رغم وعده، وزوجها رجلا ثريا بعد أن أرسله في سفر ليجمع مهرها، وحين عاد وعرف بما حدث اشتد حزنه ومات متأثرا بجرح قلبه، وقال قبل موته أبياته الشهيرة الأخيرة التي يطلب فيها من أخواته أن يسمعنه نواحهن عليه لأنه لن يستمكن من سماعه بعد موته:
مَنْ كانَ مِنْ أَخَواتي باكياً أَبداً
فاليومَ إنّي أَراني اليومَ مَقْبوضا
يُسْمِعْننيهِ فَإِنّي غيرُ سامِعِهِ
إِذا علوتُ رقابَ القوم مَعْروضا
أبو ذؤيب الهذلي :
هو شاعر مخضرم ولد في الجاهلية وأدرك الإسلام، وله قصيدة عينية شهيرة يرثي فيها أبناءه، وقيل إنه توفي في خلافة عثمان بن عفان أي بين (644م-656م) بعد أن لدغته أفعى، وحين شعر بسمها يسري في شرايينه وبالموت يقترب منه قال أبياته الأخيرة:
دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ أَوْدَ وَصُحْبَتِي
بِذِي الطَّبَسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا
فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ سَوَابِقُ عَبْرَةٍ
تَقَنَّعْتُ مِنْهَا أَنْ أُلاَمَ رِدَائِيَا
أَلَمْ تَرَنِي بِعْتُ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى
وَأَصْبَحْتُ فِي جَيْشِ ابْنِ عَفَّانَ غَازِيَا
3- العصر الأموي ( 661م -750م)
لبيد بن ربيعة ( 560م -661 م)
هو أبو عقيل لَبيد بن ربيعة بن مالك العامِري من عامر بن صعصعة، شاعر مخضرم ، قيل أنه عاش فوق المائة سنة، وحين أحس بدنو أجله قال:
تَمَنّى اِبنَتايَ أَن يَعيشَ أَبوهُما
وَهَل أَنا إِلّا مِن رَبيعَةَ أَو مُضَر
وَنائِحَتانِ تَندُبانِ بِعاقِلٍ
أَخا ثِقَةٍ لا عَينَ مِنهُ وَلا أَثَر
ومن الواضح في هذه العبارات اعتداد الشاعر بنفسه وشجاعته في مواجهة الموت، بعد أن سئم الحياة وقال فيها:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
هدبة بن خشرم (؟؟؟- 670 م)
كان هدبة بن خشرم شاعرا فصيحا قوي البيان والتصوير، وكانت مزحة بينه وبين ابن عمه الشاعر زيادة بن زيد العذري كافية لتحول قرابتهما إلى عداوة، بسببها قتل هدبة زيادة، وعوقب بالقتل على ذلك، فقال في لحظاته الأخيرة :
ألا عللاني قبل نوح النوائح
وقبل فراق الروح بين الجوائح
وقبل غديا لهف نفسي على غد
إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي تفيض دموعهم
وغودرت في لحد عليَّ صفائح
مالك بن الريب ( 641 م- 677م)
أما مالك بن الريب، فقد كانت قصيدته اليائية الأخيرة أيقونة خالدة في تاريخ الشعر العربي، تغنى بها الناس من بعده وحار في شرحها وتحليلها النقاد، وقيل أنه كان عائدا من الجهاد في سبيل الله، فلدغته أفعى – وفي رواية أخرى مرض مرضا شديدا- وأنشد قبل موته قصيدته التي مطلعها:
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً
بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا
فَلَيتَ الغَضا لَم يَقطَعِ الرَكبُ عرضه
وَلَيتَ الغَضا ماشى الرِّكابَ لَيالِيا
4.العصر العباسي ( 750م – 1517م)
أبو نواس (756 م – 814م)
ولعل قصة ابي نواس من أغرب ما يمكن أن يحكى من قصص القصائد الأخيرة، فقد كان الحسن بن هانئ شاعرا ماجنا قبل أن يتوب الله عليه في أيامه الأخيرة، فعاد إلى طريق الله وترك قصيدة رائعة حول موضوع التوبة قيل إنها وجدت في فراشه بعد موته، وهي تلك التي مطلعها:
يا رب ان عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك الا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ادعوك رب كما أمرت تضرعاً
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي اليك وسيلة الا الرجا
وجميل عفوك ثم أني مسلم
المتنبي (915 م- 965م)
أما المتنبي، فكان له قصة أخرى ترتبط باسمه، فآخر قصيدة قالها قبل مقتله كانت مديحا في وداع أبي شجاع، ولكن بعيدا عن القصيدة والممدوح، قد يسترعي انتباهنا البيت الأخير منها الذي يقول:
وَما أَنا غَيرُ سَهمٍ في هَواءٍ
يَعودُ وَلَم يَجِد فيهِ اِمتِساكا
حَيِيٌ مِن إِلَهي أَن يَراني
وَقَد فارَقتُ دارَكَ وَاِصطَفاكا
فالمتأمل لهذه الأبيات يرى بوضوح أنها تختصر فلسفة الحياة وتتحدث عن الله وعن فراق من نوع ما، وكأن الشاعر كان يلخص في آخر أبياتها رؤية وجودية عميقة ويمهد لموته ورحيله عبرها.
أبو فراس الحمداني (932م -968م)
وإن كان المتنبي قد مات قتيلا دون وداع حقيقي، فإن أبا فراس الحمداني قد قرر أن تكون آخر ابياته في وداع ابنته ومخاطبتها بلغة تنضح حكمة وصبرا، حين قال:
أَبُنَيَّتي لاتَحزَني
كُلُّ الأَنامِ إِلى ذَهابِ
أَبُنَيَّتي صَبراً جَمي
لاً لِلجَليلِ مِنَ المُصابِ
وقد أوصى أن تكتب هذه الأبيات على قبره، وقتل في معركة بمدينة حمص ليرحل الشاعر الفارس تاركا كل قصائده تبكيه.
ابن زريق البغدادي (؟؟؟- 1029م)
أما ابن زريق البغدادي، فلم يكن يعلم أنه سيموت غريبا وحيدا بعيدا عن بغداد يوم خرج منها قاصدا بلاد الأندلس، تاركا زوجته خلفه، تلك الزوجة التي أحبها وشاء الله أن تكون آخر قصائده قبل موته موجهة لها، لتكون نصا يتيما في تاريخ شاعر ضاعت أحلامه وضاعت نصوصه الأخرى، حيث يقول في مطلعها:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
غير أن اللافت في القصيدة هو آخر أبياتها التي اختصر فيها الشاعر معنى الحياة وآلامه الدنيوية واختتمها بالحديث عن الموت الذي كان بانتظاره ليخطفه في غربته بعد أن اشتد مرضه، ويقول فيها:
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي تجمعني يوما وتجمعه
وإن ينل أحد منا منيته
فما الذي في قضاء الله يصنعه
5. العصر الأندلسي:
دوقلة المنبجي (؟؟؟- 913م)
ومثل ابن زريق، لم يكن لدوقلة المنبجي من أثر سوى نص واحد تيم وأخير اختلف الناس في نسبه غليه، وقد قيل إنه كتبه في رحلته نحو محبوبته دعد التي كان يحلم بالزواج بها، ليكون هذا النص هو سبب مقتله على يد شاعر آخر انتحل صفته واخذ نصه ليتقدم به على الاميرة دعد بعد أن أعلنت عن زواجها ممن سيكتب أجمل نص شعري فيها، غير أن دعد بذكائها عرفت أن الشاعر القاتل ينتحل صفة شاعر قتله، وقد كان مطلع ذلك النص الشهير:
هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُ
أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ
أبلى الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها
فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ
ابن الوردي (1292-1349م)
ومن غرائب أواخر ما قاله الشعراء أيضا، نجد نص الشاعر ابن الوردي واسمه عمر بن مظفر بن عمر بن محمد ابن أبي الفوارس، وكان شاعرا وجغرافيا ومؤرخا وفقيها وعالم أحياء، وقد اشتهرت قصة موته بالمرض الذي تحداه وهو الطاعون، إذ كتب أبيات شعر يقول فيها:
ولستُ أخاف طاعوناً كغيري
فما هو غير إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ، استرحتُ من الأعادي
وإن عشتُ، اشتفتْ أذني وعيني
لتنتهي حياته بعد يومين فقط بالطاعون، وليترك خلفه مقاماته التاريخية حول المرض الذي فتك بآلاف الناس في زمانه.
وفي النهاية يمكن أن نستنتج أن قصص القصائد الأخيرة للشعراء ليست فقط مليئة بالغرائب والعجائب والحكايات التي تثير الحيرة والتساؤلات حول علاقة الشعر والأنسان والموت والحياة، ولكنها أيضا تجعلنا أمام ضرورة تاريخية لدراستها بشكل معمق وتحليلها والبحث عن المزيد منها داخل دهاليز ديوان العرب الذي لن يكف عن إخراج الكثير من الكنوز الأدبية والقصص الإنسانية والقصائد الخالدة التي تبقى بعد موت الشعراء حية في الذاكرة إلى الأبد.
د.حنين عمر
نشر في مجلة القوافي 2022