الثلاثاء، 5 أبريل 2022

محمد الجناتي يكتب:. الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة والاتجاه نحو خوصصة الأمن والسلم الدوليين



أصبح صعود الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة Private Military and Security Companies، كفاعل دولي - من غير الدول والمنظمات الدولية - حاضرًا بقوة في رقعة الصراعات العسكرية والأمنية الراهنة ،ذالك أن دولا كثيرة ومنظمات دولية عدة طلبت الاستعانة بالخدمات التي تقدمها بما في ذالك هيئة الأمم المتحدة وهو ما يطرح أسئلة عديدة حول شرعية و دور هذه الشركات مع تزايد الرغبة في خوصصة الأمن ومدى احترامها للقانون الدولي خاصة القانون الدولي الإنساني وللمبادئ المتضمنة في ميثاق الأمم المتحدة، وحول احتمال تهديدها للأسس التي يقوم عليها مفهوم الأمة - الدولة الحديثة.

ولعل ماساعد في التنامي السريع لهذه الشركات الخاصة هو تغير معطيات الواقع الدولي حيت ظهرت الحاجة الملحة للأمن والدفاع ولا سيما في ظل انتشار الإرهاب الدولي والجرائم العابرة للحدود وتخلي الدول عن أهم أدوارها التقليدية وهي الاحتكار الشرعي للقوة والإكراه.

كما شكل وجود هذه الشركات الخاصة في بؤر ملتهبة كالشرق الأوسط- علامة فارقة غيرت وجه و طبيعة الحروب على الأرض، خاصة بعد التزايد الكبير في حجم القوات التي يتم تسليحها وازدياد أعداد أفرادها وإمكانياتها التي أصبحت تفوق إمكانات دولا بأكملها، وهي إلى جانب قدراتها العسكرية، أحدثت تغييرا مهما في التفاعلات الدولية المعاصرة بصناعة منطقة رمادية تتدخل فيها الدول دون أن يكون لها وجود رسمي على الأرض، كما هو حاصل في أوكرانيا، سوريا،ليبيا والعراق سابقا. فكيف وصلت تلك الشركات إلى هذه المرحلة المتقدمة، وما مستقبل الصراع ومتطلبات السلم الدولي و الأمن القومي في ظل وجودها؟

إن ظهور الشركات الأمنية الخاصة لم يلقى مباركة وترحيب من كل الفقه بل إن جانبا كبيرا من هذا الأخير عارض بشدة نشأة ونشاط هذا النوع من الشركات لان ذالك من شانه أن يسهم في تجزيء السلم والأمن الدوليين من جهة ومن جهة أخرى تشجيع الدول نحو خوصصة الحروب مما سيؤذي إلى تاتيرات سلبية لا سيما في مجال حقوق الإنسان.

لا يوجد اتفاق حول تعريف المقصود بالشركات العسكرية والأمنية الخاصة، فقد استخدم الدارسون العديد من المصطلحات، ومنها على سبيل المثال، الشركات العسكرية الخاصة والشركات الأمنية الخاصة ومقدّمو الخدمات العسكرية، ومتعاقدو الخدمات العسكرية الأمنية الخاصة. وهو ما خلق نوعا من الضبابية واللبس حول المفهوم الحقيقي لهذه الهياكل ممّا خلق بدوره مزيدًا من الجدل في الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع.

ويشير مفهوم صناعة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بصورة عامة إلى شركات تجارية تبرم عقودًا قانونية، تهدف بالأساس إلى تحقيق الربح مقابل ما تقدمه من خدمات تتعلق بالمجال الأمني ويشمل نشاطها توفير الحراسة والحماية المسلحتين للأشخاص والممتلكات، مثل القوافل والمنشآت والأماكن الأخرى، وصيانة نظم الأسلحة وتشغيلها واحتجاز السجناء وتقديم المشورة أو التدريب للقوات المحلية ولموظفي الأمن أيضا تقديم خدمات عسكرية متعلقة بالتخطيط الإستراتيجي والاستخبارات والتدريب والتحقيق والاستطلاع البري أو البحري أو الجوي، وكذلك عمليات الطيران أيّا كان نوعها، والدعم المادي والتقني للقوات المسلحة، وغيرها من الأنشطة ذات الصلة بالشركات الأمنية الخاصة وتقديم الدعم والتدريب للدول المتعاقدة.

و في هذا الصدد تعتبر شركة بلاكووتر الأمريكية الشهيرة المثال الأبرز على هذا النمط، حيث شاركت في الأعمال العسكرية بالعراق وأفغانستان لصالح الولايات المتحدة. وتملك هذه الشركة قاعدة بيانات حوالي 21000 جندي سابق من القوات الخاصة تستطيع الاستناد إلى خدماتهم، ولديها تجهيزات عسكرية متطورة لا تقل عمّا تمتلكه الجيوش النظامية.
وفي مارس 2015، كشفت مصادر عراقية عن تجدد دور الشركات الأمنية الخاصة، وقيامها بمساعدة القوات العراقية في عملياتها العسكرية ضد تنظيم داعش بدعم من الولايات المتحدة. وتخصص هذه القوات في عمليات حروب العصابات، ومكافحة الإرهاب.

لا يمكن أيضا إغفال النشاط الكبير الذي تضطلع به مجموعة "فاجنر" الروسية في الصراعات الأفريقية. ففي عام 2018، توغلت المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ لتأمين أنشطة التعدين واستخراج الذهب والماس لشركة "لوباي إنفيست Lobaye Invest" الروسية، وتأمين المؤسسات، وتدريب الحرس الرئاسي والجيش هناك. وانتشرت "فاجنر" منذ عام 2019 في شمال موزمبيق؛ حيث المناطق الغنية بالغاز لمواجهة داعش، كما تعمل في جمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال ومالي. 

ترجع بداية ظهور هذه الشركات الأمنية الخاصة “”شركات الحماية الأمنية، المقاولين الأمنيين”” إلى عهد الاستعمار في القرن الماضي وبخاصة في الدول الإفريقية بعد الاستعمار الفرنسي والبريطاني لإفريقيا بعد مؤتمر برلين، تم استخدموا من قبل بعض الزعامات في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، لقمع وتصفية المعارضة، كما تمت الاستعانة بهم لتنفيذ الانقلابات العسكرية، ومع مرور الوقت بدأت هذه الشركات في تقديم خدماتها للشركات المتعددة الجنسية العاملة في مجال النفط والتعدين، وصارت تدير أعمالا في مناطق مضطربة بهدف توفير الأمن والحراسة حتى تطور الأمر لتقوم هذه الشركات الخاصة بمهام أمنية، وعمليات عسكرية خاصة، وقد أنشئت أول شركة أمنية خاص من طرف عضو سابق في الفرقة البريطانية الخاصة جیم جونسون وكان زباؤنه في البدایة من الشخصیات السیاسیة والتجاریة الدولیة، وكان العمل یقتصر على توفیر الحمایة وتدريب الحراسات الخاصة. لكن التنافس بین هذه الشركات الخاصة أذى إلى تنشیط هذه المهنة وسرعان ما انتقل عمل هذه الشركات من الحمایة الأمنیة الخاصة إلى المشاركة في النزاعات والحروب، وقد اتسع نطاق هذه الشركات وتطور السوق التجارية المرتبطة من خلال إقامة علاقات بأجهزة المخابرات البریطانیة والأمریكیة خاصة وزارة الدفاع الأمریكیة، ولقد أصبح الجیش الأمریكي الزبون الأهم في العالم في الاستعانة بهذه الشركات منذ حرب الخلیج الثانیة عام 1991 حيت أنفقت أمريكا وحدها نحو 25 مليار دولار على القطاع الأمني مقارنة بـ 30 مليار على الشرطة الرسمية، وبالنظر إلى الأوضاع الوظيفية نجد أن أكثر من 10 آلاف شركة أمن خاصة قامت بتوظيف نحو 1.5 مليون حارس، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف الحال في القوى الأمنية الحكومية، التي بلغ العدد فيها نحو 554 ألفًا.
يمكن اعتبار إفريقيا الوجهة المثالية للشركات الأمنية الدولية الخاصة، ففي عام 2004 مثلًا حصلت شركة داينكورب dyncorp على عقدٍ لتدريب قوات حفظ السلام في السودان وعمليات المساعدة في بناء البنية التحتية والنقل من قوات السلام للاتحاد الإفريقي، واعترف مسؤولوها بأن إفريقيا هي جزء من الهدف المثالي للشركة، لأنها ساعدتهم على إبرام عقود مع الشركات الأمريكية والأمم المتحدة، والتي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار على الأقل خلال 5 سنوات، في انتظار المزيد من الفرص المتعلقة بسلامة شركات النفط، ومعدات التعدين، والشركات الغربية الأخرى العاملة في إفريقيا، كما أنها ساعدت في إعداد ما يقارب 80% من جنود عمليات حفظ السلام الإفريقية و39 ألف جندي في 20 بلدًا.

وهكذا، في سياق مناخ مضطرب و غير مستقرّ بسبب انتشار ظاهرة الإرهاب و العولمة وسطوة الجماعات المسلحة، ومع تعدُّد الانقلابات وازدهار أنشطة التهريب أصبحت إفريقيا بمثابة “المجال الحيوي” للشركات الأمنية التي تقوم أيضًا بعمليات تدخل في إفريقيا، على غرار غينيا الاستوائية والكونغو الديمقراطية وموريتانيا وإفريقيا الوسطى، ومؤخَّرًا تقوم بذلك في تونس أيضًا، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى انسحاب الدول العظمى وعجز الأمم المتحدة عن تعبئة القوات اللازمة، ما سهل استئناف نشاطات المرتزقة على إثر اندلاع بعض النزاعات الإفريقية، وذلك بسبب الحاجة التي أبدتها بعض الدول الضعيفة أو الديكتاتورية في التسعينات من القرن الماضي.

إن أحد أهم المخاطر التي يتعرض لها القانون الإنساني الدولي هو الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي تستفيد من سمعتها "السيئة" في سوق مجزأة، حيث تقوم الدول بتوظيفها بشكل متزايد للعمل في المناطق التي تحدث فيها صراعات مسلحة، بل أنها أصبحت أكثر جاذبية لأن أعضاءها يعملون خارج القوات النظامية الرسمية للدول، ومن ثمة أصبح من الصعب تحميلهم مسؤولية الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبونها. ومع ذلك، فإن وجودها يستمر في إثارة الجدل، ومشاركتها كممثل خاص في الصراع بين الدول لا يخلو من إثارة أسئلة حول هذه المسألة والجانب القانوني في ظل الحديث عن افتقادها للإطار والمنظومة القانونية اللازمة لضبط مهامها والإشراف على أنشطتها الأمنية.

ويُشير الخبراء في مجال “إدارة التهديدات الدولية” إلى الخطورة التي ينطوي عليها غياب تنظيم قانوني لنشاط هذه الشركات، ويرون أنه من الضروري اعتماد إطار قانوني يُنَظِّم أنشطة الشركات العسكرية الخاصة، حتى لا تُشَكِّل وضعًا تفرض من خلاله هذه الشركات إملاءاتها على الدول، التي ستكون حينئذٍ قد تخلَّت عن دورها السيادي بتأمين وظيفة الدفاع، فضلاً عن الاعتبارات السياسية التي صاحبت وضعها، بحيث تظهر صعوبة كبيرة في تطبيق الشروط الخاصة بالمرتزقة على هذه الشركات.

وفي هذا الإطار أُطلقت عدة مبادرات دولية بهدف توضيح أو إعادة تأكيد أو تطوير معايير قانونية دولية تنظّم أنشطة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، ولا سيما لضمان امتثالها لمعايير السلوك التي يعكسها كل من القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، ولتمييز أعمالها وأفرادها عن مفهوم المرتزقة وقد أدت مبادرة مشتركة بين وزارة الخارجية السويسرية واللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى الخروج «بوثيقة مونترو» (Montreux)، بشأن الالتزامات القانونية الدولية والممارسات السليمة للدول ذات الصلة بعمليات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في أثناء النزاع المسلح (2008)، والتي اعتمدتها 17 دولة. وهناك الآن أكثر من 40 دولة موقّعة على هذه الوثيقة التي أعادت تأكيد الالتزامات القانونية الحالية للدول في ما يخص الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، وأوصت كذلك باعتماد دليل للممارسات السليمة من أجل تطبيق تلك الالتزامات عمليًا، وتأمين الامتثال لموجبات القانون الدولي الإنساني.

وفي الختام، يمكن القول إن عودة "المرتزقة" في شكل شركات الأمن الخاصة يُعبر عن تحول عميق في بنية الصراعات وطبيعة الدولة الحديثة، لاسيما في العالم النامي. ومن المؤكد أن هذه الظاهرة جاءت لتبقى، فهي استدعاء لظاهرة الارتزاق الموجودة منذ سنوات طويلة، بأشكال أكثر تدميراً وعنفاً، ومن دون إطار قانوني أو أخلاقي ناظم سوى المصالح الضيقة للفاعلين من الدول وغير الدول، وهو ما ينذر بزيادة وتيرة وكثافة الصراعات وإطالة أمدها لتعزيز مصالح الشركات والنخب السياسة والاقتصادية المرتبطة بها.

الدكتور محمد الجناتي









  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات
Item Reviewed: محمد الجناتي يكتب:. الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة والاتجاه نحو خوصصة الأمن والسلم الدوليين Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top