
في وداع الكاسر، العوسق، أبو عميرة، وصقر الجراد... يتخذ عند كل قبيلة اسما، وبطاقة تعريف ويحظى بوافر كره مربي الدجاج وأنواع الأرانب والطيور، ...
دخل بيتي دون استئذان، ولم يجد منّا سوى التِّرحاب، دخل متلبسا بفعلة من طبائعه، سقط كالسهم على ضحيته، كان تدخلي مباشرا، قبضت عليه وتمكنت الضحية من النجاة، (جا يصيد ساعة تصيد)، ويحكى عنه أنه كثيرا ما يموت بقوة الارتماء على ضحاياه كلما تعلق الأمر بسطح من الأسطح الصلبة والمتكلسة؛ حاول إيذائي كثيرا، بمنقار مثل مشذب أظافر مهند يضرب ويقطع مباشرة، ومخالب مثل كماشة حديد، يضرب برجله بخفة تفوق تصوراتي السابقة كلها، تعاملت معه تعاملي مع أصدقائي الطيور المغردة، ليس لي عهد بتربية هذه الكائنات العدوانية المفترسة، لكنه سرعان ما تخلى عن الكثير من عدوانيته، وأعاد النظر في كثير من سلوكياته وربما أراه نادما على كل قطعة اجتزها من جلدي، لاحظ أنه يؤذيني، يتذوق لحمي ودمي، ولا أعامله إلا برفق، لأنني واثق من أن تلك هي طبيعته، ويصعب أن يحيد المخلوق عن طبائعه، إلا ما كان للتمويه والتنكر وصرف الانتباه، وتجد لذلك دليلا في أمور السياسة والتدينن، كمن جمع مال قارون تحت جلباب حلاج...
وهو من أشرس الطيور، لا بد أن يستثمر أدوات عمله، وسائل إنتاجه ومعدات دفاعه، لكن وأنه لاحم وأنا عاشب لا تصلح معه رفقة ولا يستقيم مقام. منذ أن دخل بيتي لم يغرد طائر الكناري، أصيب برهبة كبيرة رغم محاولات العزل والتباعد، منذ دخل الكاسر بيتي لم يغرد طائر لذا لابد أن يغادر ...
وهذه صور ما قبل الرحيل، رحلة لن تكون كسابقاتها ...
سيعيش حياة بتجربة فريدة، عايش خلال أيام معدودات أناسا وأطفالا زرع في أعينهم الفرحة ورسم على شفاههم ضحكات صادقة كان ذلك يبدو في عيونهم ... تذوق لحم الديك الرومي المجفف، شاهد صوره على شاشة الهاتف والحاسوب، وكان ينظر إليها نظرات اكتشاف عظيم، يراقب الصورة ثم ينظر في وجهي وكأنه يقول نحن هنا، لابد للطفرة القادمة أن تفكر في الأمر، وربما كان لي بعض شرف الأثر في بزوغ باكورة شتائلها ...
شكرا صديقي الشرير، شكرا على قبولك التخلي على كثير من شرّك وعُدوانيتك، شكرا على إحساسك السريع بالحب والأمان وقراءة العلامات داخل حياة اجتماعية لا تعنيك، حياة يعجز أهلها عن فك شفراتها ... مع الأسف ... مع الأسف لا تستقيم رفقة على الأقل في هذه الحال ... ربما نلتقي مرة أخرى لابد من الوداع ... ولو على أمل لقاء، رفرف، فدموعي رفرفت على خدي قبل أن ترفرف... لا أريد إضافة ... غادر، أنت لا حم وأنا عاشب ...لا بد أن تغادر ...وشمعتي أضاءت كل قبوي، وفي غرفتي حقل وبستان ... ذهب الكاسر وبعت كل طيوري المغردة، على أمل سلالة جديدة، لم تعد تملأ عيني هذه السلالات ... لابد لتصدعات الذاكرة المتكلسة من هدير ...لابد من تجديد السلالة من حين إلى حين ...
*****"
غالبا،أَجِدُني مضطرا لمغادرة التراب الأزرق في رحلات الهجرة السرمدية بحثا عن صفائح الرغيف، بينما يغيب البعض بحثا عن نفائس الزليج، الزليج بالضبط يجب أن يكون إيطاليا وذلك فقط من أجل عيون الناس ... لكن ورغم الزليج ونفائس الرخام لابد للمرء أن يهان، في الضاحية خاصة، الكل يهان على الأقل مرة كل آخر ليل عند مرور "ابن عقيسة" في حالات سكره الطافح، يسب يمينا وشمالا، لابد أن يسب الجميع قبل أن يركُنَ للنوم، لكن دون أن يؤذي أحدا بعينه، أو يقصد احدا في شخصه، هو ساخط على الجميع في جمعهم ولا حاجة له بأي فرد، كلما لامه أحد، انفجر في وجهه بعاصفة من الأدب والقسم أنه ليس المقصود، والله لست المقصود، والله لست المقصود، إنه "بنادم" هو من فعل وفعل، وربما قص عليه مقطعا من معاناته بين أدغال الضاحية، بين باديتها وحاضرتها، في الضاحية أدغال اسمنتية وخرسانية وبمحاذاة كل باب عدادي ماء وكهرباء، هناك مقهاه المفضل، دكاكين للتبضع؛ سويقة ومحطة سيارات أجرة لتدبر المصروف...
ربما الإهانة في الضاحية من أعلى درجات لطائف الخبث، فلا تستغرب أن يهين بائع السجائر بالتفصل فيلسوفا كبيرا، وبغاية في الإقناع لا تمتلك معها سوى الاقتناع لإقامته الدليل والبرهان، صديقنـا يسخر من الفيلسوف "بَيْدَبَة ولا يرى أنه أحق بأي تقدير، فهو كما يحكي بأسلوب شارعيٍّ بديع، بقده وطول قامته وعظمة لسانه يتوسل لبنات آوى من أجل رسالة للملك "دَبْشَلِيم"، فلا هو ولا ناقلها الى "الفهلوية" من "السانسكريتية" استحق تقديرا، ولا ابن المقفع من عربها، لولا أن عظمة كليلة ودمنة تشفع لهم جميعا، ومع ذلك فالنعال تقي من الأرض ولا تقي شر البرد... وما عساك أن تقول؟
وأنت تسمع بائع السجائر بالمقهى المعلوم يسخر من "فرانز كافكا" فقط لأنه اضطُرَّ للمسخ خُنْفُساء ضخمة، ملقاةً على ظهرها، فقط ليبرر عجزه عن فتح الباب، وأنتظاره فاتحا يفتح، متوسلا في ذلك بأدب راق يستحق جرأة واندفاع "دانتي" ومجابهة دانتي ... وللمرأة أيضا قسط من واجب الإهانة، أمور معقدة في رحلات البحث عن شريك الحياة قبل فرار فترات الخصوبة، في بحور من انعدام الثقة، وقرب الشر في اللسان وبعد الصبر وسرعة الرد بالاعتداء والانتقام، في الضاحية يرون الانتقام إقامة للعدل ولو بشرع اليد أو بشرع اللسان، ردّاً للاعتبار، في الضاحية يعتبرون المرأة آلة جنسية، بقرة حلوب تتقن صنع الفطائر لتعيل الزوج والأبناء، تنظف العمارات وتكنس، تفعل أشياء كثيرة لا تخطر على بال، وعند العُزّابِ مثل منديل ورق يُلقى به بعد الاستعمال، أو ككمامة يجب التخلص منها بحذر ...
... يُتْبَعُ ...
محمد زمراكي
كاتب من المغرب/مكناس
مقالات سابقة للكاتب:
استهلال حكي 1
استهلال حكي2
استهلال حكي3
استهلال حكي4
استهلال حكي5
استهلال حكي6
استهلال حكي7
استهلال حكي8
استهلال حكي9
استهلال حكي10
استهلال حكي11
استهلال حك ي 12
استهلال حكي 13