في نفس الشهر و نفس الأسبوع وبفارق يومين فقدت مدينة أصيلة العديد من أبنائها البررة من ضمنهم أحمد شقور (خاي أحمد) كما كان يناديه محسن العدلاني (جوردي) ، و الفنان محمد الملّيحي قيدوم الفنانين التشكيليين . تستطيع هذه المدينة الهادئة المستكينة على ضفاف الأطلسي أن تتحمل كل الأذى من أي صنف كان و كل الأسى من أي نوع كان إلا الابتلاء بالموت بهذا الحجم و هذا المدى الذي لا يحصى.
كانا و لم يكن الموت ، حضر الموت في شكل كوفيد فغابا.
كان أحمد شقور من عائلة عريقة ذكرها مرارا برناردو رودريكس في سياق حديثه عن العائلات القاطنة بالمدينة القديمة بأصيلا إبّان الاحتلال البرتغالي في كتابه "حوليات أصيلة".
و كان الفنان محمد الملّيحي هو الآخر من عائلة شهيرة بأصيلة ، عائلة الفن بامتياز. هو الذي هندس الصورة الحديثة لمدينة أصيلة بمعية الأستاذ محمد بنعيسى . فالمدينة تشهد رسوماته الأرضية على رصيف الكورنيش رفقة الفنان فريد بلكاهية .كما تشهد نصبا فنيا شامخا بكدية السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه.
لا يمكن لمولاي أحمد أن يغيب عن أصيلة أكثر من أسبوع و كان يزورها أكثر من مرة في الأسبوع ناهيك عن زياراته الرسمية بمعية فليبي غونزاليس أو خوسي ماريا أثنار...كان أحمد شقور يجتمع و يسمر مع أبناء أصيلة البسطاء ، و يقضي معهم أطراف النهار و آناء الليل بمحبة لا يسود فيها إلا الضحك و المرح و المستملحات ..المكلف بالسمك "دلبلاد" هو محمد العدلاني و الرفقة تتكون من مراد غيلان صاحب مطعم لبلاسا والأستاذ مصطفى البقال و عبد السلام المجدوبي محمد الهيوي و مصطفى النيّة و جوردي و يونس لطهي و عبد اللطيف أمزغار و أحمد كويرط و نور الدين الشريف و مصطفى الرقيوق صاحب مطعم القصبة و نور الدين الجابري....و غيرهم كثير.جلهم سافروا معه إلى الخليج وإسبانيا و هولندا . رقيق العواطف دمث الأخلاق مرح بسيط كريم .
لمّا ذاع خبر وفاته كان جزء منا في مطعم بيبي و الجزء الآخر في القصبة ، ذهلنا لمّا تأكد الخبر . و رغم أنه غاب عن أصيلة في المدة الأخيرة أكثر من أسبوع و لم يجب على هواتف أصدقائه و هي ليست عادته رغم كثرة الانشغالات و المسؤوليات ، كان حاضرا في أذهاننا .و لا يملّ جوردي من ذكره وذكر محاسنه.
بعد أن وري جثمانه الورى بدا قبره حذاء قبر أمه و أهله بسيطا، بحوافّه أحجار كبيرة من الكلس و كومة متوسطة الحجم من التراب الثري..هل ها هناك حقا يجثم جثمانه، ذاك الذي كنا نراه جالسا في ليالي أصيلة حول طاولة يلفها ظلام خفيف و نور بالكاد يضيء نفسه .. بين لابلاسا و القصبة أمام واجهة منزله الذي لم يصلحه بعد و هو يشهد على البناء الكولونيالي الإسباني (ساحة الزلاقة).
تلك الليلة في القصبة لم يسكت جوردي و كنا قد اتفقنا أن نشرب أنخاب الفقيد لأنه كان يوصي بذلك .. نعيناه بثمالة ذاكرتنا بكأس من دم الجروين والعشاء الأخير وسيولة الكرال ..لم يتوقف جوردي عن البكاء والرثاء يشاركه عبد السلام المجدوبي وكان يونس عصي الدمع شيمته الصبر عميق الحزن والأسى، لم يبق لحسن واسيني وأنا سوى المواساة وتخفيف المصاب الجلل.
"هزمتك الأغاني يا جوردي" ، " يا ألله" ، " الخلود هو التناسل في الوجود" ... بمثل هذه العبارات كان جوردي يعلن نعيه و يهدّأ من روع المصاب. ويشكرنا على تعاطفنا معه ..
لم تتح لي فرصة لقاء الفنان الكبير محمد الملّيحي بأصيلة رغم تواجدي فيها تقريبا كل صيف منذ نهاية السبعينات.كان دائم الحضور في جمعية المحيط ثم المنتدى . لكني أدركت ملاقاته في الدار البيضاء يوم شاركت في لقاء الذكرى الخمسينية لجمعية الفنانين التشكيليين المغاربة . آنذاك تدخل أكثر من مرة في أنشطة تلك التظاهرة و قدّم مفاتيح مقر الجمعية للمكتب الجديد وكأنه يضمن الاستمرارية الفنية وريادتها بالمغرب.
الملّيحي يشبه فرانك ستيلا (1936)الفنان الأمريكي ممثل الفن الشعبي ومخترع اللوحات المجزأة ذات العلاقة العميقة بالألوان و الأشكال وتداخلها قال عنه كارل أندري " فرانك ستيلا لا يهتم بالتعبير ولا بالحساسية قدر اهتمامه بضرورات الصباغة" . تجمع بينهما الألوان والصباغة والهندسة لكن الملّيحي يتميز عنه باختياره أيقونة "الموجة" كعلامة بارزة وأساسية لا مندوحة عنها في كل ما يصبغه ويرسمه ويهندسه. الموجة أيقونة محمد الملّيحي ومحمد الملّيحي أيقونة أصيلة . نصب كدية السلطان عبارة عن أمواج صاعدة إلى علياء السماء وسوارها المحيط بها عبارة عن أمواج وتموّجات حديدية وأسوار ثانوية وادي الذهب ..وشعار المنتدى مكون من مركب مشكل من الأمواج . لوحة فارهة مهيبة بفضاء محطة القطار بأصيلة تمثل أمواجا متلاطمة بألوان ممتزجة وحتى أسوار المحطة هي الأخرى في شكل أمواج .." يا موجة احزني..من أبدعك مات وقضى نحبه .. نريدك أن تستمري أيقونة حيّة لا تهدأ"
مدينة أصيلة هي نتاج الفن والسياسة . هي جماع تخطيط الفنان التشكيلي الجمالي والسياسي المدبّر المقتدر . ولكل واحد منهما أبناء وأتباع .. كوكبة من الفنانين المرموقين الشباب وجماعات من السياسيين الغيورين على المدينة وبينهما برزخ من السكان يمتحون الجمال من هؤلاء ويترجون الخير من أولئك.
لم تتح لي للأسف فرصة توديعه إلى مثواه الأخير ، أنا القاطن على بعد عدة أمتار من منزل عائلته (التيقان) لكنني مطمئن عليه هناك في زاوية سيدي الغزواني حذاء زاويتنا.
الجمال والخير هما عنوان صحيفتي كل من المرحوم أحمد شقور والمرحوم محمد الملّيحي، بهما كل واحد منهما سيلقى ربّه وسيعرض عليه ما تقدم وما تأخر من ذنوبه ومنجزاته الجمالية والخيرية . و الله خير وجمال ويحب الخير والجمال.