إن الجداريات فن قديم قدم الإنسان. عرف تطورا واستمرارية متجددة بتطور الحضارات والشعوب. فمن شعاب الميثولوجيا إلى الواقع المعاصر، ظل الفن الجداري لغزا محيرا كإلهام فني استبد بالإنسان.
للجداريات أهمية قصوى في الفن التشكيلي الذي يبدو أنه لم يعد يقتصر على فئة معينة التي تتوافد على قاعات العروض، بل ضمنت له الانفتاح على المجتمع بكامله. كما أسعفت الفنان على ترجمة أفكاره وبث رسالته للجمهور العريض.
ألهمت جائحة كورونا بعض فناني أصيلة على مبادرة إنجاز مشغل لرسم الجداريات بالمدينة العتيقة متخذة هذه الغائلة موضوعا مؤطرا لها.
وبمناسبة هذه التظاهرة الفنية، التقت "فضاء البوغاز" المفكر والباحث في الجماليات إدريس كثير، وأجرينا معه الحوار التالي:
1- هل يمكن لك أن تتحدث لنا عن هذه التظاهرة الفنية، وتقديم قراءة، ولو بعجالة، لبعض الجداريات التي استأثرت باهتمامك؟
2- مشاركة أطفال المدينة في هذه التظاهرة الفنية كان لافتا، وكان بدوره ظاهرة فريدة قل نظيرها.
3- جاء في بلاغ مؤسسة منتدى أصيلة أن الغرض من تنظيم هذه الجداريات هو محاربة الإكتئاب والقنوط. هل يمكن الحديث هنا عن "التداوي بالفن" كما تحدث البعض عن التداوي بالفلسفة؟
حاوره يونس لطهي.
كان جواب إدريس كثير دفعة واحدة للارتباط الوثيق بين الأسئلة المطروحة:
بمبادرة رفيعة أقام منتدى أصيلة، في شهر يوليوز 2020، تظاهرة فنية شيدت فيها جداريات عديدة تمحورت حول ثيمة أو موضوعة كورونا 2020، تظافرت فيها جهود فنانين أطفال ( ذكور و إناث) وفنانين وفنانات أغلبهم من أصيلة.
1- الفنان محمد العنزاوي واقتباس لوحة غرنيكا لبيكاسو:
معلوم أن غرنيكا لوحة رسمت للتعبير عن بشاعة الحرب (وغرنيكا قرية باسكية تعرضت لقصف جوي فظيع). من هذه الناحية اختار الفنان م.العنزاوي اقتباس هذه اللوحة بالذات هو اختياز موفق ، لأنه رام هو نفسه التعبير عن بشاعة جائحة أخرى هي ( كورونا ).كما أن أهم عنصر جمالي في لوحة بيكاسو هو الشكل ( الأشكال ) المعبرة والموحية بالدمار الذي خلفته الحروب ، أما الألوان فهي ثانوية في تقدير ذائقة بيكاسو أيضا، إذا كان يبدو الفنان م. العنزاوي وكأنه قد تسرع في رسم اقتباس أشكال اللوحة حتى بهوت ألوانها، فهذا الإنجاز المضاعف في الاقتباس كان ناجح ومطابقا لمقتضى الحال ( أهداف التظاهرة الفنية ) لأن الغرض لم يكن في محاكاة وتقليد لوحة بيكاسو ليدرك المشاهد دقة إبداع التقليد بل كان ذريعة لإضافة كمامات رمز الجائحة الآن... إلى وجوه الحيوانات والآدميين في اللوحة/ الجدارية السيمولاكر...ولربما أبلغ وأبدع جزء في جدارية الفنان م.العنزاوي هو توفيقه في رسم بورتري له داخل الجدارية. ليس من السهل الانتباه إليه وهو مبثوث كرسالة ألان إدغاربو المتوارية بهذه العناصر الثلاث : اقتباس لوحة بيكاسو تعبر عن الجائحة و إضافة الكمامات حيث كان يجب وضعها والمشاركة الفعلية من طرف الفنان لزرع ما يشبه وجهه في الجدارية نفوز بلحظة إبداع لازالت ساحة ابن خلدون بأصيلة شاهدة عليها.
2- نرجس الجباري والميمات الثلاث:
هناك ثلاث ميمات حسب عبد الله العروي تساهم في بناء عنوان حضارة بلد من البلدان: المطر والمال والمرأة. المرأة هنا هي الفنانة نرجس الجباري، والمطر في الجدارية الباذخة التي رسمتها مع مساعديها ، غيوم داكنة زرقاء ووابل من المطر الأصفر والأبيض ودلو يجمع ماء الغيث ويدخره. أما المال فهو حصاد الغيث والخير العميم لما يحين قطفه وجني القطوف الدانية. لا يوجد على الجدارية أي أثر للكمامات ولا ما يحيل عليها...ولا إحساس بالجائحة لا في الألوان ولا في الموتيفات لكن الجدارية برمتها رسمت من وراء الكمامة... فهي حلم ما بعد الجائحة...هوس الفنانة نرجس الجباري في نظري هو المطر وهذا الأخير هو الخير العميم والمال الوفير.. حين تتوفر هذه الميمات الثلاثة ترسم الخيرات على محيى المدينة والناس وتزهر الأرض وتخضر ويرتاح البحر ويزدهر... نرجس الفنانة المرأة هي إحالة على نرجس الجمال وحب الذات والماء مرآة تعكس الخيرات وتحولها إلى أموال.
...انعكاس الوجه على صفحة الماء هي استعارة للنرجس..ها هنا كان نرجس يتملى وجهه يوميا ويرفع غشاوة الكمامات القديمة ليري جمال وجهه الصبوح.. لعمري إن الفن حين يحترم تاريخه ومثله العليا كما هي مجسدة في منجز الفنانة نرجس الجباري يستطيع هزم ودحر رداءة وبشاعة الوباء.
3- عبد القادر المليحي ولون الخوف:
لون الخوف هو عادة الأخضر. وقد يعتبر الأصفر كذلك أيضا. بهذا اللون اختار الفنان عبد القادر المليحي تلوين شخوصه على جداريته. شخوص مذعورة لا يظهر فيها سبب الذعر سوى السيقان الرقيقة والأرجل المتداخلة والوجوه المشدوهة أما باقي الجسم لا ظهور له. اختفى خوفا مم ربما تكون هذه هي الوضعية التي يبدو عليها الإنسان أثناء الخوف والذعر. في الجائحة (مثلا/ وجوه) هي الأخرى مبحلقة بعيون جاحظة وأفواه فاغرة.هكذا عبر الفنان عبد القادر المليحي عن موضوعة التظاهرة. كورونا تسكننا لونا أخضرا وعيونا جاحظة وسيقانا رقيقة، إلى أي حد يمكن لتعاضد الناس وتحالفهم الحد من الآثار المضرة للجائحة؟ هل هو تعاضد وتماسك أم هو خوف وتراجع؟ مهما يكن من اصطفاف الناس وتراصهم، فالهلع قائم والخوف من الجائحة عارم. والأهم في الجدارية هو تبدل لونها حسب تدفق نور الشمس وتغير الأزمنة.ولربما يدل هذا التغير والتبدل على المواقف المترددة والمشككة في صدقية الجائحة.
4- قطط غيلان تختبئ في دروب المدينة:
قد تكون فكرة رسم القطط بالأسود والأصفر على جدران دروب مدينة أصيلة العتيقة فكرة مقتبسة ... لا ضير في ذلك لأن الفنان حكيم غيلان لم يعلم بتجربة الفنان الإيطالي كيني راندوم إلا فيما بعد. ثم إن اشتغال هذا الأخير على القطط لا علاقة له بفكرة حكيم ألا وهي بعد رسم القطط في زوايا ومنعرجات الدروب والأزقة التركيز على مسابقة اكتشافها. تقتضي المسابقة اكتشاف أكبر عدد من القطط وتجميع أكبر عدد من النقط. استغرقت المسابقة أكثر من أسبوع حصلت خلالها العديد من المستملحات... هناك من رفض رسم القط على جداره واعتبر الرقم المرافق للرسم تمويها لرقم باب منزله، وهناك تلك الفتاة التي دخلت في حوار مع القط بعد أن أهدته سمكة و بدا لها أنه رفضها... و أصدق واقعة هي تلك التي حصلت للصديق محمد الفشتال. يعتبر هذا الأخير محبا للقطط، احتضن ذات مرة قطا جميلا وتبناه منذ نعومة أظافره ولما نضج القط فر من المنزل رغم العطف والعناية وفضل التسكع في دروب أصيلة وبات محمد يبحث عنه ويتبعه في كل الدروب لإطعامه وحترم قراره معللا إياه بالغريزة اللبيدية.
القطط موتيف رسم وتشكيل عام لدى كل الفنانين تقريبا. قط رونوار ماني ، وقبلهما المادون والقط لدافتشي، ومرآة القطط للينيور فيني وقطط ماتيس وبيكاسو... والقط زاردشت.
وتعتبر القطط من حماة الأطفال لدى اليابانيين، وهي مسؤولة عن الخصوبة ورمز الأمومة. كانت لها رمزية مقدسة لدى الفراعنة. ويعتقد العديد من الناس أن للقطط مئات الأرواح. ولا ترى القطط سوى الأصفر والأزرق وهذا الأخير يمكن إنتاجه من الأصفر الباهت استحضارا لكل هذه الرمزية يمكن اعتبار فكرة الفنان غيلان حكيم فكرة موفقة تروم انخراط الأطفال في البحث عن هذه الرؤية وتجاوز هول جائحة كورونا بخلق تسلية تبدأ بزيارة المدينة القديمة والبحث في زوايا دروبها عن القطط المختبئة...فرحة العثور عليها تشكل لعبا بريئا يحمل الأطفال على تجاوز عنفهم وعدوانيتهم... والكبار من أجل الاستكشاف وإعادة الاستكشاف للمدينة القديمة.
5- الموناليزا والكمامات معاد الجباري:
من جهته اختار الفنان معاذ الجباري الجوكاندا جدارية له، وأضاف إليها العديد من الموتيفات... بدءا بالألوان وتقنية الأقواس والكمامات وسيل من الغيث الأصفر...حجبت عنا الكمامة على وجه الموناليزا ابتسامتها الفارهة فغاب الابتهاج والانشراح اللذان عرفت بهما إشراقة الوجه الصبوح.. فعكست الكمامة بؤس الجائحة والاحتياط ... مرة أخرى لم تكن قصدية الفنان معاد الجباري تقليد اللوحة المشهورة ولا محاكاتها بقدر ما كان هدفه التعبير عن إحساس مليء بالسواد والأبخرة الرمادية وصفراء السيل زادت الجدارية قتامة. فانطلت كلها تقريبا بالكمامات رمز قطع الأنفاس بسبب الخوف من الفيروس الغاشم. يقال أن عيون الموناليزا والمشاهد يشاهدها تتابعه وتحاصره من كل الجهات. وهذا لا الحضور لا تغيب عنه الابتسامة إلا في لوحة معاد الجباري. وفيما تغيب الابتسامة أو تختفي ترفع أيضا ألحان الموسيقى التي كانت ترافقها أثناء رسمها من طرف دافينشي. إن العباءة السوداء التي دثر بها معاذ الجباري موناليزاه منحت الكمامة البيضاء كامل نصاعتها وبياضها. وتناثرت الكمامات على طول المدينة العتيقة بأقواسها وقصباتها كأنها شلالا أراد إغراق المدينة في الجائحة أو في الفيضانات التي لا تقل مأساة عن الغوائل الأخرى.
تبدو الموناليزا واقفة وقفة تأمل وتحسر على الخراب الذي أصاب المدينة – أية مدينة – وتظهر معالمها في أقواس أبوابها ومساحات وديانها.
6-أما الفنانون الصغار فكلهم ( وعددهم يفوق الثلاثين ) التزموا في جداريتهم التي رسمت على جدران مدرسة محمد علي مرزوق بموضوعة كورونا 2020، فمنهم من أشار إلى عالمية الجائحة بوضع كمامة كبيرة على الكرة الزرقاء، ومنهم من أشعرنا بأن كورونا تراقبنا وتختلس نظرة المختلس من نوافذنا أو شبابيكنا ومنهم من اقترح الرياضة والاعتناء بالصحة لمواجهة الجائحة...ومنهم من ميز السلوك الحسن من السلوك الخشن في التعامل مع ما تقتضيه الجائحة، وكانت جدارياتهم حقا واعدة بفناني المستقبل.
أخيرا، يجب العودة إلى صيدلية أفلاطون: الفارمكون لا يعني الترياق فقط (ما يشفي وما يقتل في آن واحد)، إنه أيضا لون ينير الطريق. الترياق/ لون – مؤشر لمحاربة الجائحة أو الغائلة يقول دريدا: إنه كبش الفداء ..لمواجهة الوباء. ووسيلة لإنتاج شيء ما. هكذا يمكن اعتبار الجداريات المرسومة بما فيها جداريات الأـطفال: طلاسم للعلاج من الوباء كيف ما كان هذا الأخير جهلا أو كورونا.