عبد اللطيف اللعبي: استعادة شهوة المستقبل رهينة بتحقيق الديموقراطية
حوار: محسن عتيقي
| عبد اللطيف اللعبي:شاعر |
عن مجلة الدوحة يوليوز 2012 العدد57
في مجمل أعماله، دوّن الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي (1942) تجربته الشعرية في محنتين مكانهما السجن والمنفى في: يوميات قلعة المنفى، مجنون الأمل، تجاعيد الأسد، شجون الدار البيضاء، الهوية شاعر، شاعر يمر... بالإضافة إلى حواراته ومقالاته.
تتحدد هوية اللعبي بين شاعر عابر للأجناس، ومثقف يساري دفع ضريبة نضاله (1972 - 1980) من أجل مجتمع مغربي يكون فيه للمثقف دور في الشأن العام وفق قيم الديموقراطية والمواطنة والحرية.
من هذا المنطلق، وبالاستناد على نسفه لمعادلة تبعية الثقافي للسياسي، يؤمن اللعبي بأن الثقافة هي سياسة في الجوهر، فلا مانع عنده أن تكون القصيدة «عملاً سياسياً حيوياً تقترح تجربة ورؤية للعلاقات بالذات والآخرين بما تحييه من ملكات بشرية ومن تعلق بمعجزة الحياة».
محن اللعبي لم تجبره على المكوث داخل الألم, وإنما قصائده في اشتهاء متواصل لمساحات مفترضة من الأمل. مواقفه السياسية واحدة من الأصوات المحترمة في المغرب، وهو من المثقفين المغاربة الذين لا يترددون صراحة في قول ما يجب قوله حين يتعلق الأمر بالديموقراطية والحرية. في الثقافة وغيرها تجده مؤمناً بالإصلاح المؤسساتي، حاضراً باقتراحاته وانتقاداته للسياسة الثقافية والتعليمية في المغرب. وقد بادر في الآونة الأخيرة بكتابة ميثاق من أجل الثقافة المغربية.
عاش اللعبي مفضلاً استقلاليته الفكرية وحريته ككاتب، ولم يكن عيشه في فرنسا مترفاً، تحاشى على غير العادة دعوات رسمية، وأعماله باستثناء «قاع الخابية» عن غاليمار، نشرت في دور متواضعة.
§ سبق وأن استأت من القراءة السياسية على حساب تجربتك كشاعر. نشر حواراتك في كتاب «القراءة العاشقة»، هل يمكن اعتباره هامشاً على حاشية مشروعك الشعري، وبالتالي تصحيح تلك الجملة الموجعة «اكتب ما شئت، سنقرأ منك ما شئنا»؟.
- نشر هذه الحوارات هو قبل كل شيء استدراك للتأخير الذي طرأ على نقلها إلى العربية. هاجسي الأول إذا كان هو وضعها- كما يقال- بين يدي القارئ العربي، وأنا سعيد بذلك الآن كما سعدت مؤخراً بنشر عدد كبير من أعمالي الأخرى في ظرف وجيز، والفضل في ذلك يرجع إلى دار (ورد) الدمشقية التي احتضنت بمودة فائقة تجربتي الأدبية والفكرية.
أما عن جوهر سؤالك فأنت تعرف أن الكاتب مُصابٌ على غرار المؤمن، خصوصاً في محيطنا العربي. وهو ملزم في كثير من الأحيان بتوضيح نواياه ومقاصده، بل تدفعه الضرورة إلى شرح الواضح من نصوصه والبيِّن من أفكاره. لذا أصبو شخصياً إلى علاقة مغايرة مع القارئ مبنية على الحوار، الإنصات المتبادل والأخذ والعطاء. وهدفي في آخر المطاف هو نقله من وضعية المستهلك المستكين إلى دور الشريك الفاعل في مغامرتي الإبداعية.
§ تَعتبر الشهرة أو النجومية عاملاً مخلاً بصدق التجربة الإبداعية. هل يرجع موقفك هذا إلى ما عاينته، وعانيت منه في آن، من صناعات للمبدع المغاربي داخل الساحة الثقافية الفرنسية أم هو موقف عام من الكاتب الذي ينشئ لنفسه مقاولة ترويجية؟
- أنا لم أنل الشهرة في تلك الساحة كما يبدو ذلك للبعض وإلا لكانت كتبي تروَّجُ بمئات الآلاف، وتترجم إلى عشرات اللغات. إنني بالأحرى أحظى باحترام الأوساط الأدبية النيرة، وبما هو أعز إلي، بمحبة وامتنان العديد من القراء الذين لا يترددون في مراسلتي أو مخاطبتي مباشرة. لا أعير اهتماماً لذلك السباق التافه من أجل الشهرة أو «الإمارة الشعرية» الوهمية. فالعمل الإبداعي من وجهة نظري ينبني على قيم أخلاقية وسُلكية هي التي تضفي على مهمة الكاتب نُبلها وقيمتها الإنسانية المتميزة.
§ رغم قراءاتك واهتماماتك الموسوعية، يلاحظ في حواراتك أنك تتجنب، على عكس ما هو رائج، الاقتباس من أقوال المشاهير في حقل الأدب والفلسفة. هل هو اكتفاء ذاتي؟
- ملاحظتك في محلها تماماً، ولو أنني أشذّ عن هذه القاعدة أحياناً، مثلاً في عملي السردي الأخير «شاعر يمرّ». الأمر لا يتعلق باكتفاء ذاتي بقدر ما هو خيار فرض نفسه في مسار تجربتي الخاصة، فأنا أتوجس في مجال الكتابة الشعرية أو النثرية من أي استعراض للعضلات الفلسفية أو المعارف الأدبية الموسوعية. كما أنني لا أضيق ذرعاً بتلك الإحالات الاعتباطية التي يلصقها البعض بكتاباتهم دون أن ينتبهوا أنها قد تظهر بالمقارنة هزالة ما يكتبون. فالثقافة كما قيل هي «ما يتبقى بعدما نكون قد نسينا كل شيء». زد على ذلك أن النص الأدبي ليس في حاجة إلى نظرية مضافة، خارجة عنه، فهو يتضمن فكره الخاص، طريقته الخاصة في المعرفة ومقاربة الواقع، في التساؤل والتعبير عن أدق المشاعر الإنسانية. لذا، أفضل أن يترك النص يقوم بكل وظائفه تلك دون أن نربط أجنحته الطليقة بخطابات أو إحالات لا طاقة له بها.
§ يبدو لك أنك لست شخصاً محيراً في شيء.. اللهم الشفافية التي دبرت حياتك على هديها. مواقفك السياسية الصريحة، إلى أي حد ساهمت في زيادة مقروئية إنتاجك الإبداعي؟
- لا أدري صراحة إن هي زادت أو قلصت من مقروئية أعمالي الإبداعية. لكنها وسعت بالتأكيد دائرة القراء الذين بدؤوا يفدون عليها، خصوصاً في السنوات الأخيرة. فرغم كل ما يقال عن أزمة النشر والتوزيع والقراءة في المغرب ألاحظ شخصياً أن بعض التطور قد طرأ على هذه الأصعدة، وهذا يعود بدوره إلى الحراك الذي حصل في الآونة الأخيرة في الساحة السياسية والاجتماعية وما ترتب عن ذلك من انتعاش فكري وثقافي وتعطُّش للمعرفة.
§ بعد سبات طويل، جيل الثورات الراهنة فاجأ الجميع في غفلة من المثقف والسياسي، هل تراه جيل انفصال، وبالتالي إن تُرك سوف يبدع أدواته النقدية والفكرية الجديدة، أم أن هناك ضرورات اتصال لا فكاك منها؟
- أنا لا أومن فقط بضرورة استقلالية كل جيل عن سابقيه بل إنني خلال السنوات الأخيرة، وأكثر من ذلك، منذ عقدين على الأقل، كنت دائماً ألح عليها، وأدعو إليها باقتناع تام. إن زمن الأبوية قد ولّى، ومستقبل الجيل الجديد والأجيال الصاعدة في يدها هي وليس في يد من سبقها. على هذه الأجيال أن تتحلى بالجرأة الفكرية وروح المبادرة والإبداعية في مجال ممارسة المواطنة.
طبعاً، أنا لا أدعو هنا إلى القطيعة مع جيلنا، فطريق المستقبل لن يتضح دون استخلاص الدروس والعبر من الطرق التي سلكناها في الماضي البعيد والماضي القريب. لا مندوحة إذن عن الحوار والتفاعل والإثراء المتبادل.
على كل نحن، شيوخاً كنا أم شباباً، في حاجة ماسة إلى تجديد الفكر السياسي والمبادرة المواطنة وبعث الروح في الساحة السياسية من أجل تحقيق المشروع الديموقراطي الحداثي الذي نصبو إليه والقادر وحده على إخراج البلاد من التعفن والتخلف والعسف بالحقوق والحريات.
حتى تمتلك النخب السياسية والثقافية حالياً ما تسميه شهوة المستقبل. هل يكون ذلك بالعودة إلى المثقف النخبوي الجمعي، أم بالالتصاق بالواقع والجماهير؟
- استرجاع تلك الشهوة من طرف كل المواطنين، سواء أكانوا ينتمون إلى ما تسميه بالنخبة أو لأوسع الجماهير التي تعاني الأمرّين من الواقع القائم، رهين بتوضيح المشروع الديموقراطي الذي تحدثت عنه منذ قليل، وتوفير الشروط السياسية والفكرية والثقافية من أجل تحقيقه. وهذا يتطلب ثورة في مجال التربية والتعليم، في ثقافتنا السياسية، وفي وعي الشعب بقدرته على تغيير أوضاعه وتحقيق آماله. وهذا لن يتأتى دون بروز قوة سياسية مواطنة جديدة واعية بكل هذه التحديات، مرتبطة بالشعب وقادرة أيضاً على تعبئة النخب وكافة مكونات المجتمع المدني على أساس الشراكة وليس التبعية.
§ قلت عن الكاتب إنه ليس من الأولياء والقديسين.. تخترقه باستمرار نزعات متضاربة. كيف تغلبت على الخوف طوال مواقفك التي دفعت ثمنها سنوات من السجن والمنفى؟
- الخوف من المجهول كان حاضراً بالطبع عندما كنت تحت رحمة الجلاد، لكن خوفي الأقوى، وهذا هو الأهم، كان على الأحلام التي كنت أحد حَمَلَتِها. لقد قاومته قدر المستطاع في أحلك الظروف وهو لا يزال يطاردني حتى الآن. لكن شعوري هذا لم يكن أبداً من النوع الذي يشل العزيمة أو يفقدك الإيمان بمبادئك وعدالة أحلامك. إنه نوع من تشاؤم العقل أو الشك المنهجي الذي يمدك باليقظة الدائمة وبضرورة إعادة النظر عند الحاجة في بعض القناعات التي قد يثبت الواقع قصورها. وهذا نوع من أنواع الشجاعة، لا يخطر دائماً على بالنا.
§ طالما أطلقت صرخات مشابهة لندائك الحديث من أجل ميثاق للثقافة المغربية. هل هي رغبة في الانخراط المباشر داخل المشهد الثقافي، أم تسجيل موقف في مخاض سياسي وثوري كالذي تمر به البلاد حالياً؟
- أنا لا أسجل مواقف لإرضاء نرجسيتي بل أقوم بواجبي الطبيعي كمواطن واع بمسؤوليته وككاتب يحترم وظيفته. ثم إنني لست في حاجة لذلك ليكون لي موقعي الخاص في المشهد الثقافي. فما ألفته من أعمال حتى الآن يكفي لكي أكون حاضراً وفاعلاً في ذلك المشهد. ثم إنني لم أنتظر الموجة السياسية الصاخبة التي نشهدها منذ انطلاق الربيع العربي لأضع التحاليل التي وضعتها والمواقف التي اتخذتها والصرخات التي أطلقتها. إنه وعي وفعل انطلقا منذ تجربة أنفاس في الستينات، واستمر على امتداد عقود. في الماضي تم تطويق وخنق صوتي الخاص، بعد ذلك نظم الصمت حوله في عملية لغسل الذاكرة. ومنذ سنوات، لحسن الحظ، لم يعد بالإمكان حجبه. هذا كل ما في الأمر.
من أين تتغذى طاقة الحلم لديك؟ المتأمل في أجوبتك الحوارية يجدها تتسم بالقسوة والسوداوية، وكثيراً ما تختمها بتوقيع متفائل يحلم بالمستقبل على أنقاض الماضي..
- ما تصفه هنا له اسم هو الجدلية، أو ما أسماه إميل حبيبي بـ «التشاؤل» أو ما نعته الفيلسوف والمناضل الإيطالي بتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. زد على ذلك أنني عندما أتشاءم أو أتفاءل فليس ذلك جرياً وراء خلاصي الشخصي بل حرصاً على المصير الجماعي والإنساني. إن طاقة الأمل تصبح أقوى إن هي طلعت من بوتقة التمزقات والمحن. وهذا الاختبار بالنار هو الذي يثبت مدى تعلق المرء بالأفكار والمبادئ التي يدافع عنها.
§ تقرأ الرواية أكثر من الشعر، لكن إنتاجك في الشعر هو الأوفر، ما الذي أضافته لك قراءة الرواية كشاعر؟
- مقاربة أخرى لزمن وفضاء وهندسة الكتابة، لجدلية الأنا والآخر، تعامل مغاير مع أدوات ونفَسِ اللغة، ثراء في المخيلة، وفي آخر المطاف شهوة حقيقية لولوج مغامرة الرواية بعتادي الخاص كشاعر. إن المُطَّلع على سيرتي الإبداعية يعرف جيداً مدى حرصي على اختراق الحواجز التي تفصل ما بين الأجناس الأدبية وعملي على تلاقحها وإغنائها المتبادل. وأنا كما قلت ذلك مراراً أرفض الشوفينية الشعرية أوالروائية على حد سواء. إنني أشتغل على الحقل الأدبي برمَّته. لا أكتفي بما اكتُشفَ منه بل أسعى باستمرار إلى اكتشاف المغمور والمنسي فيه.
§ أنت مولع بالمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي.. ما حجم السلطة التي تمارسها عليك هذه الاهتمامات لحظة الكتابة؟
- هي ليست سلطة بل حضور أنيس يرافقني ويحاورني باستمرار قبل وخلال لحظة الكتابة. هي حواس تنضاف إلى حواسي العادية. لا يمكن للكاتب الاستغناء عن هذه الفنون وإلا أصبح من تعداد الجهلة. لهذا السبب ألح دائماً على نوعية ثقافة الكاتب وعلى فضوله اتجاه ليس الفنون الأخرى فحسب بل كل حقول المعرفة.
§ «أرى الحب بين ظهرانينا ملكة قيد الذبول، وأرى كلماته آخذة في الشحوب». إننا لا نكاد نتوقف عن الكلام بكون الحب فقدَ مجاله الرومانسي. ما تأثير هذا الخصاص الاجتماعي على القصيدة التي نكتبها حالياً والتي سنكتبها مستقبلاً؟
- الحب قارة اكتشفناها في الماضي كسائر البشر، ساهمنا في إخصابها وزرعها بعناية وجعلنا فيها أزواجاً حفظت الإنسانية ذاكرتها وتناقلتها عبر الأجيال. إلا أننا فرطنا فيها خلال عهد الهمجية الذي اجتزناه في العقود الأخيرة، حيث فقدنا جلّ القيم التي تأسست عليها حضارتنا ومن ضمنها قيمة الحب، وكأن الواقع الذي نعيش فيه، نظراً لبؤسه وعنفه، لم يعد يحتمل صدق العاطفة وتأججها ورونقها. الحب يتطلب الانفتاح على الآخر، الإنصات إليه، القبول باختلافه، بكامل حريته، احترام كرامته. إنه يتطلب الاقتناع التام بالمساواة. مجال الحب كما حددت شروطه أصبح ضيقاً للغاية في واقع مجتمعي انتشرت فيه أوبئة الأنانية وجنون السلطة والأفكار الظلامية التي تنفي على الفرد أي حرية أو حقوق ما عدا ما يفرضه الامتثال إلى أوامره ونهيه. إننا لن نسترجع طاقة الحب ما لم تتحقق للمرأة كامل حقوقها وكرامتها الإنسانية، في القانون وفي كافة الممارسات الاجتماعية.
الحب في اعتقادي مكَوّن وعامل حضاري في نفس الوقت. إنه ابن الحرية التي تقترب وتبتعد كالسراب وتتطلب المزيد من التضحيات. لكنه ليس غريباً عنا ما دمنا نحمله في طياتنا ونأمل حلوله بين ظهرانينا.
§ تبوح بعلاقة خاصة مع الأشجار. ما سر هذا الانجذاب؟
- هو سر مرتبط بكل ما يمثل من حولي وبما يرافقني خلال إقامتي على هذه الأرض: الحبيبة، الأولاد، الأحياء والأموات من البشر، الحيوان والجماد أو ما يسمى جماداً، العناصر الطبيعية، الفصول، السماء، النجوم والكواكب والكون. إنني من عشاق هذه الأرض التي هي وطن البشرية جمعاء، ومن المدافعين عن التجربة الفريدة التي نعيشها على ظهرها. المعجزة الحقيقية التي أعترف بها هي تلك التجربة رغم كل ما ارتكبه أشباه البشر من مجازر ومن خراب. رغم كل ذلك، انظر إلى التطور الهائل الذي حققته البشرية في فترة لا تتجاوز ثواني معدودة في تاريخ الأرض منذ تكونها. من هذا الانبهار الكلي يأتي انبهاري بالجزئي وضمنه النبات وعلى الخصوص الأشجار. أنا أراها كائنات حية مثلنا، كل واحدة فريدة من نوعها. أذكر منها مثلاً الجكرندة والمانيوليا، النخلة الشامخة في الواحات وليس النخيل التجاري الذي كثر زرعه على حوافي الطرق المعبدة. الشجرة ولو أنها في الغاب لا تعرف شريعته. إنها تنشر أنبل رسالة مفادها العطاء دون مقابل، ما عدا ما تتكرم به السماء على الجميع من نور وغيث. إنها لا تكذب ولا تسطو على أحد، تعيش في أمان وتنشر حولها الأمان. لذا فأنا أعاملها كما أعامل الأقرباء والأحبة. قُلْ لي بربك: ألم يحصل أنك تأملت شجرة ما أكثر مما تأملت وجهاً ساحراً؟ إذن!
في مجمل أعماله، دوّن الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي (1942) تجربته الشعرية في محنتين مكانهما السجن والمنفى في: يوميات قلعة المنفى، مجنون الأمل، تجاعيد الأسد، شجون الدار البيضاء، الهوية شاعر، شاعر يمر... بالإضافة إلى حواراته ومقالاته.
تتحدد هوية اللعبي بين شاعر عابر للأجناس، ومثقف يساري دفع ضريبة نضاله (1972 - 1980) من أجل مجتمع مغربي يكون فيه للمثقف دور في الشأن العام وفق قيم الديموقراطية والمواطنة والحرية.
من هذا المنطلق، وبالاستناد على نسفه لمعادلة تبعية الثقافي للسياسي، يؤمن اللعبي بأن الثقافة هي سياسة في الجوهر، فلا مانع عنده أن تكون القصيدة «عملاً سياسياً حيوياً تقترح تجربة ورؤية للعلاقات بالذات والآخرين بما تحييه من ملكات بشرية ومن تعلق بمعجزة الحياة».
محن اللعبي لم تجبره على المكوث داخل الألم, وإنما قصائده في اشتهاء متواصل لمساحات مفترضة من الأمل. مواقفه السياسية واحدة من الأصوات المحترمة في المغرب، وهو من المثقفين المغاربة الذين لا يترددون صراحة في قول ما يجب قوله حين يتعلق الأمر بالديموقراطية والحرية. في الثقافة وغيرها تجده مؤمناً بالإصلاح المؤسساتي، حاضراً باقتراحاته وانتقاداته للسياسة الثقافية والتعليمية في المغرب. وقد بادر في الآونة الأخيرة بكتابة ميثاق من أجل الثقافة المغربية.
عاش اللعبي مفضلاً استقلاليته الفكرية وحريته ككاتب، ولم يكن عيشه في فرنسا مترفاً، تحاشى على غير العادة دعوات رسمية، وأعماله باستثناء «قاع الخابية» عن غاليمار، نشرت في دور متواضعة.
§ سبق وأن استأت من القراءة السياسية على حساب تجربتك كشاعر. نشر حواراتك في كتاب «القراءة العاشقة»، هل يمكن اعتباره هامشاً على حاشية مشروعك الشعري، وبالتالي تصحيح تلك الجملة الموجعة «اكتب ما شئت، سنقرأ منك ما شئنا»؟.
- نشر هذه الحوارات هو قبل كل شيء استدراك للتأخير الذي طرأ على نقلها إلى العربية. هاجسي الأول إذا كان هو وضعها- كما يقال- بين يدي القارئ العربي، وأنا سعيد بذلك الآن كما سعدت مؤخراً بنشر عدد كبير من أعمالي الأخرى في ظرف وجيز، والفضل في ذلك يرجع إلى دار (ورد) الدمشقية التي احتضنت بمودة فائقة تجربتي الأدبية والفكرية.
أما عن جوهر سؤالك فأنت تعرف أن الكاتب مُصابٌ على غرار المؤمن، خصوصاً في محيطنا العربي. وهو ملزم في كثير من الأحيان بتوضيح نواياه ومقاصده، بل تدفعه الضرورة إلى شرح الواضح من نصوصه والبيِّن من أفكاره. لذا أصبو شخصياً إلى علاقة مغايرة مع القارئ مبنية على الحوار، الإنصات المتبادل والأخذ والعطاء. وهدفي في آخر المطاف هو نقله من وضعية المستهلك المستكين إلى دور الشريك الفاعل في مغامرتي الإبداعية.
§ تَعتبر الشهرة أو النجومية عاملاً مخلاً بصدق التجربة الإبداعية. هل يرجع موقفك هذا إلى ما عاينته، وعانيت منه في آن، من صناعات للمبدع المغاربي داخل الساحة الثقافية الفرنسية أم هو موقف عام من الكاتب الذي ينشئ لنفسه مقاولة ترويجية؟
- أنا لم أنل الشهرة في تلك الساحة كما يبدو ذلك للبعض وإلا لكانت كتبي تروَّجُ بمئات الآلاف، وتترجم إلى عشرات اللغات. إنني بالأحرى أحظى باحترام الأوساط الأدبية النيرة، وبما هو أعز إلي، بمحبة وامتنان العديد من القراء الذين لا يترددون في مراسلتي أو مخاطبتي مباشرة. لا أعير اهتماماً لذلك السباق التافه من أجل الشهرة أو «الإمارة الشعرية» الوهمية. فالعمل الإبداعي من وجهة نظري ينبني على قيم أخلاقية وسُلكية هي التي تضفي على مهمة الكاتب نُبلها وقيمتها الإنسانية المتميزة.
§ رغم قراءاتك واهتماماتك الموسوعية، يلاحظ في حواراتك أنك تتجنب، على عكس ما هو رائج، الاقتباس من أقوال المشاهير في حقل الأدب والفلسفة. هل هو اكتفاء ذاتي؟
- ملاحظتك في محلها تماماً، ولو أنني أشذّ عن هذه القاعدة أحياناً، مثلاً في عملي السردي الأخير «شاعر يمرّ». الأمر لا يتعلق باكتفاء ذاتي بقدر ما هو خيار فرض نفسه في مسار تجربتي الخاصة، فأنا أتوجس في مجال الكتابة الشعرية أو النثرية من أي استعراض للعضلات الفلسفية أو المعارف الأدبية الموسوعية. كما أنني لا أضيق ذرعاً بتلك الإحالات الاعتباطية التي يلصقها البعض بكتاباتهم دون أن ينتبهوا أنها قد تظهر بالمقارنة هزالة ما يكتبون. فالثقافة كما قيل هي «ما يتبقى بعدما نكون قد نسينا كل شيء». زد على ذلك أن النص الأدبي ليس في حاجة إلى نظرية مضافة، خارجة عنه، فهو يتضمن فكره الخاص، طريقته الخاصة في المعرفة ومقاربة الواقع، في التساؤل والتعبير عن أدق المشاعر الإنسانية. لذا، أفضل أن يترك النص يقوم بكل وظائفه تلك دون أن نربط أجنحته الطليقة بخطابات أو إحالات لا طاقة له بها.
§ يبدو لك أنك لست شخصاً محيراً في شيء.. اللهم الشفافية التي دبرت حياتك على هديها. مواقفك السياسية الصريحة، إلى أي حد ساهمت في زيادة مقروئية إنتاجك الإبداعي؟
- لا أدري صراحة إن هي زادت أو قلصت من مقروئية أعمالي الإبداعية. لكنها وسعت بالتأكيد دائرة القراء الذين بدؤوا يفدون عليها، خصوصاً في السنوات الأخيرة. فرغم كل ما يقال عن أزمة النشر والتوزيع والقراءة في المغرب ألاحظ شخصياً أن بعض التطور قد طرأ على هذه الأصعدة، وهذا يعود بدوره إلى الحراك الذي حصل في الآونة الأخيرة في الساحة السياسية والاجتماعية وما ترتب عن ذلك من انتعاش فكري وثقافي وتعطُّش للمعرفة.
§ بعد سبات طويل، جيل الثورات الراهنة فاجأ الجميع في غفلة من المثقف والسياسي، هل تراه جيل انفصال، وبالتالي إن تُرك سوف يبدع أدواته النقدية والفكرية الجديدة، أم أن هناك ضرورات اتصال لا فكاك منها؟
- أنا لا أومن فقط بضرورة استقلالية كل جيل عن سابقيه بل إنني خلال السنوات الأخيرة، وأكثر من ذلك، منذ عقدين على الأقل، كنت دائماً ألح عليها، وأدعو إليها باقتناع تام. إن زمن الأبوية قد ولّى، ومستقبل الجيل الجديد والأجيال الصاعدة في يدها هي وليس في يد من سبقها. على هذه الأجيال أن تتحلى بالجرأة الفكرية وروح المبادرة والإبداعية في مجال ممارسة المواطنة.
طبعاً، أنا لا أدعو هنا إلى القطيعة مع جيلنا، فطريق المستقبل لن يتضح دون استخلاص الدروس والعبر من الطرق التي سلكناها في الماضي البعيد والماضي القريب. لا مندوحة إذن عن الحوار والتفاعل والإثراء المتبادل.
على كل نحن، شيوخاً كنا أم شباباً، في حاجة ماسة إلى تجديد الفكر السياسي والمبادرة المواطنة وبعث الروح في الساحة السياسية من أجل تحقيق المشروع الديموقراطي الحداثي الذي نصبو إليه والقادر وحده على إخراج البلاد من التعفن والتخلف والعسف بالحقوق والحريات.
حتى تمتلك النخب السياسية والثقافية حالياً ما تسميه شهوة المستقبل. هل يكون ذلك بالعودة إلى المثقف النخبوي الجمعي، أم بالالتصاق بالواقع والجماهير؟
- استرجاع تلك الشهوة من طرف كل المواطنين، سواء أكانوا ينتمون إلى ما تسميه بالنخبة أو لأوسع الجماهير التي تعاني الأمرّين من الواقع القائم، رهين بتوضيح المشروع الديموقراطي الذي تحدثت عنه منذ قليل، وتوفير الشروط السياسية والفكرية والثقافية من أجل تحقيقه. وهذا يتطلب ثورة في مجال التربية والتعليم، في ثقافتنا السياسية، وفي وعي الشعب بقدرته على تغيير أوضاعه وتحقيق آماله. وهذا لن يتأتى دون بروز قوة سياسية مواطنة جديدة واعية بكل هذه التحديات، مرتبطة بالشعب وقادرة أيضاً على تعبئة النخب وكافة مكونات المجتمع المدني على أساس الشراكة وليس التبعية.
§ قلت عن الكاتب إنه ليس من الأولياء والقديسين.. تخترقه باستمرار نزعات متضاربة. كيف تغلبت على الخوف طوال مواقفك التي دفعت ثمنها سنوات من السجن والمنفى؟
- الخوف من المجهول كان حاضراً بالطبع عندما كنت تحت رحمة الجلاد، لكن خوفي الأقوى، وهذا هو الأهم، كان على الأحلام التي كنت أحد حَمَلَتِها. لقد قاومته قدر المستطاع في أحلك الظروف وهو لا يزال يطاردني حتى الآن. لكن شعوري هذا لم يكن أبداً من النوع الذي يشل العزيمة أو يفقدك الإيمان بمبادئك وعدالة أحلامك. إنه نوع من تشاؤم العقل أو الشك المنهجي الذي يمدك باليقظة الدائمة وبضرورة إعادة النظر عند الحاجة في بعض القناعات التي قد يثبت الواقع قصورها. وهذا نوع من أنواع الشجاعة، لا يخطر دائماً على بالنا.
§ طالما أطلقت صرخات مشابهة لندائك الحديث من أجل ميثاق للثقافة المغربية. هل هي رغبة في الانخراط المباشر داخل المشهد الثقافي، أم تسجيل موقف في مخاض سياسي وثوري كالذي تمر به البلاد حالياً؟
- أنا لا أسجل مواقف لإرضاء نرجسيتي بل أقوم بواجبي الطبيعي كمواطن واع بمسؤوليته وككاتب يحترم وظيفته. ثم إنني لست في حاجة لذلك ليكون لي موقعي الخاص في المشهد الثقافي. فما ألفته من أعمال حتى الآن يكفي لكي أكون حاضراً وفاعلاً في ذلك المشهد. ثم إنني لم أنتظر الموجة السياسية الصاخبة التي نشهدها منذ انطلاق الربيع العربي لأضع التحاليل التي وضعتها والمواقف التي اتخذتها والصرخات التي أطلقتها. إنه وعي وفعل انطلقا منذ تجربة أنفاس في الستينات، واستمر على امتداد عقود. في الماضي تم تطويق وخنق صوتي الخاص، بعد ذلك نظم الصمت حوله في عملية لغسل الذاكرة. ومنذ سنوات، لحسن الحظ، لم يعد بالإمكان حجبه. هذا كل ما في الأمر.
من أين تتغذى طاقة الحلم لديك؟ المتأمل في أجوبتك الحوارية يجدها تتسم بالقسوة والسوداوية، وكثيراً ما تختمها بتوقيع متفائل يحلم بالمستقبل على أنقاض الماضي..
- ما تصفه هنا له اسم هو الجدلية، أو ما أسماه إميل حبيبي بـ «التشاؤل» أو ما نعته الفيلسوف والمناضل الإيطالي بتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. زد على ذلك أنني عندما أتشاءم أو أتفاءل فليس ذلك جرياً وراء خلاصي الشخصي بل حرصاً على المصير الجماعي والإنساني. إن طاقة الأمل تصبح أقوى إن هي طلعت من بوتقة التمزقات والمحن. وهذا الاختبار بالنار هو الذي يثبت مدى تعلق المرء بالأفكار والمبادئ التي يدافع عنها.
§ تقرأ الرواية أكثر من الشعر، لكن إنتاجك في الشعر هو الأوفر، ما الذي أضافته لك قراءة الرواية كشاعر؟
- مقاربة أخرى لزمن وفضاء وهندسة الكتابة، لجدلية الأنا والآخر، تعامل مغاير مع أدوات ونفَسِ اللغة، ثراء في المخيلة، وفي آخر المطاف شهوة حقيقية لولوج مغامرة الرواية بعتادي الخاص كشاعر. إن المُطَّلع على سيرتي الإبداعية يعرف جيداً مدى حرصي على اختراق الحواجز التي تفصل ما بين الأجناس الأدبية وعملي على تلاقحها وإغنائها المتبادل. وأنا كما قلت ذلك مراراً أرفض الشوفينية الشعرية أوالروائية على حد سواء. إنني أشتغل على الحقل الأدبي برمَّته. لا أكتفي بما اكتُشفَ منه بل أسعى باستمرار إلى اكتشاف المغمور والمنسي فيه.
§ أنت مولع بالمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي.. ما حجم السلطة التي تمارسها عليك هذه الاهتمامات لحظة الكتابة؟
- هي ليست سلطة بل حضور أنيس يرافقني ويحاورني باستمرار قبل وخلال لحظة الكتابة. هي حواس تنضاف إلى حواسي العادية. لا يمكن للكاتب الاستغناء عن هذه الفنون وإلا أصبح من تعداد الجهلة. لهذا السبب ألح دائماً على نوعية ثقافة الكاتب وعلى فضوله اتجاه ليس الفنون الأخرى فحسب بل كل حقول المعرفة.
§ «أرى الحب بين ظهرانينا ملكة قيد الذبول، وأرى كلماته آخذة في الشحوب». إننا لا نكاد نتوقف عن الكلام بكون الحب فقدَ مجاله الرومانسي. ما تأثير هذا الخصاص الاجتماعي على القصيدة التي نكتبها حالياً والتي سنكتبها مستقبلاً؟
- الحب قارة اكتشفناها في الماضي كسائر البشر، ساهمنا في إخصابها وزرعها بعناية وجعلنا فيها أزواجاً حفظت الإنسانية ذاكرتها وتناقلتها عبر الأجيال. إلا أننا فرطنا فيها خلال عهد الهمجية الذي اجتزناه في العقود الأخيرة، حيث فقدنا جلّ القيم التي تأسست عليها حضارتنا ومن ضمنها قيمة الحب، وكأن الواقع الذي نعيش فيه، نظراً لبؤسه وعنفه، لم يعد يحتمل صدق العاطفة وتأججها ورونقها. الحب يتطلب الانفتاح على الآخر، الإنصات إليه، القبول باختلافه، بكامل حريته، احترام كرامته. إنه يتطلب الاقتناع التام بالمساواة. مجال الحب كما حددت شروطه أصبح ضيقاً للغاية في واقع مجتمعي انتشرت فيه أوبئة الأنانية وجنون السلطة والأفكار الظلامية التي تنفي على الفرد أي حرية أو حقوق ما عدا ما يفرضه الامتثال إلى أوامره ونهيه. إننا لن نسترجع طاقة الحب ما لم تتحقق للمرأة كامل حقوقها وكرامتها الإنسانية، في القانون وفي كافة الممارسات الاجتماعية.
الحب في اعتقادي مكَوّن وعامل حضاري في نفس الوقت. إنه ابن الحرية التي تقترب وتبتعد كالسراب وتتطلب المزيد من التضحيات. لكنه ليس غريباً عنا ما دمنا نحمله في طياتنا ونأمل حلوله بين ظهرانينا.
§ تبوح بعلاقة خاصة مع الأشجار. ما سر هذا الانجذاب؟
- هو سر مرتبط بكل ما يمثل من حولي وبما يرافقني خلال إقامتي على هذه الأرض: الحبيبة، الأولاد، الأحياء والأموات من البشر، الحيوان والجماد أو ما يسمى جماداً، العناصر الطبيعية، الفصول، السماء، النجوم والكواكب والكون. إنني من عشاق هذه الأرض التي هي وطن البشرية جمعاء، ومن المدافعين عن التجربة الفريدة التي نعيشها على ظهرها. المعجزة الحقيقية التي أعترف بها هي تلك التجربة رغم كل ما ارتكبه أشباه البشر من مجازر ومن خراب. رغم كل ذلك، انظر إلى التطور الهائل الذي حققته البشرية في فترة لا تتجاوز ثواني معدودة في تاريخ الأرض منذ تكونها. من هذا الانبهار الكلي يأتي انبهاري بالجزئي وضمنه النبات وعلى الخصوص الأشجار. أنا أراها كائنات حية مثلنا، كل واحدة فريدة من نوعها. أذكر منها مثلاً الجكرندة والمانيوليا، النخلة الشامخة في الواحات وليس النخيل التجاري الذي كثر زرعه على حوافي الطرق المعبدة. الشجرة ولو أنها في الغاب لا تعرف شريعته. إنها تنشر أنبل رسالة مفادها العطاء دون مقابل، ما عدا ما تتكرم به السماء على الجميع من نور وغيث. إنها لا تكذب ولا تسطو على أحد، تعيش في أمان وتنشر حولها الأمان. لذا فأنا أعاملها كما أعامل الأقرباء والأحبة. قُلْ لي بربك: ألم يحصل أنك تأملت شجرة ما أكثر مما تأملت وجهاً ساحراً؟ إذن!

0 التعليقات