في 21 نونبر 1935رأت النور "جارة القمر" و"الصوت الملائكي"، المطربة فــــــــيروز،اسمها الأصلي نهاد رزق وديع حداد، المطربة اللبنانية التي تحولت إلى رمز موسيقي وإنساني خالد في الوجدان العربي والعالمي.
ولدت في حيّ زقاق البلاط الشعبي في بيروت، وسط أسرة متواضعة الحال، فوالدها كان يعمل في مطبعة صغيرة، ووالدتها ربة بيت.منذ نعومة أظافرها لفتت الأنظار بصوتها العذب وهي تترنم بالأناشيد المدرسية والتراتيل الكنسية،
كان لها حضور فطري يشي بمستقبل مختلف. التحقت في أواخر الأربعينيات بالمعهد الموسيقي اللبناني، وهناك بدأت تتلقى دروس الغناء والتدريب على الأصول الموسيقية، إلى أن اكتشفها حليم الرومي، الموسيقي الكبير ومدير الإذاعة اللبنانية،الذي أدرك فرادة خامتها الصوتية فأطلق عليها اسم "فيروز" ليكون هذا الاسم علامة فارقة في تاريخ الفن العربي.
دخلت فيروز عالم الأضواء فعليًا حين التقت بالأخوين رحباني، عاصي ومنصور، اللذين صاغا لها أغنيات قصيرة وعصرية في بنائها الموسيقي، بعيدة عن الإطالة التقليدية، تحاكي وجدان الناس وتواكب روح العصر.
لم يقتصر هذا التعاون على أغانٍ منفردة، بل امتد ليشكّل مدرسة موسيقية قائمة بذاتها، عُرفت بالرحبانية، وكان لفيروز فيها الموقع الأسمى بوصفها الصوت الذي يمنح الكلمة والموسيقى أفقًا إنسانيًا رحبًا.
ومع مطلع الخمسينيات بدأت أغانيها تبث عبر الإذاعة اللبنانية، فسرعان ما أحبها الناس وارتبط صوتها بالصباح، حتى صار الاستماع إليها طقسًا يوميًا في البيوت والمقاهي.
قدمت فيروز خلال مسيرتها الغنائية عشرات الأغنيات التي تنوعت بين القصائد الرومانسية والأغاني الوطنية والتراتيل الروحية، فغنت للحب والطفولة والوطن، وأعطت لكل مفردة موسيقية حياة جديدة.
ومع الأخوين رحباني ارتبط اسمها بعشرات المسرحيات الغنائية التي أثرت الذاكرة العربية، مثل "جسر القمر"، "بياع الخواتم"، "هالة والملك"، "المحطة"، وغيرها،حيث جمعت بين الغناء والتمثيل في أعمال تحمل رمزية اجتماعية ووطنية عميقة.
كما وقفت على كبريات المسارح والمهرجانات، من بعلبك وبيت الدين في لبنان، وتونس ودمشق وعمان والقاهرة، وصولًا إلى باريس ونيويورك، فحملت صورة لبنان الثقافي إلى العالم بأسره.
لم يكن صوت فيروز محصورًا في حدود الفن فحسب، بل تحول إلى مساحة جامعة للشعوب العربية، خصوصًا في زمن الحروب والانقسامات.
ففي لبنان، خلال سنوات الحرب الأهلية، ظل صوتها علامة على الوحدة والأمل، إذ غنّت للبنان الجريح كما غنّت لفلسطين ولأحلام الناس البسطاء، فكانت ملاذًا يلتقي عنده المختلفون والمتخاصمون.
ورغم شهرتها الطاغية، عُرفت فيروز بعزلتها عن الإعلام وابتعادها عن الصخب، محافظة على صورة متفردة تجمع بين البساطة والسمو.
لمسيرتها التي تخطّت ستة عقود من العطاء. ولا تزال حتى اليوم مصدر إلهام للأجيال الجديدة من الفنانين والموسيقيين، إذ يرون فيها مثالًا للفن الأصيل الذي يقاوم التغيرات السريعة ويظل حاضرًا بقيمته وعمقه.
المتأمّل في مسيرة فيروز يلاحظ أنها ليست مجرد رحلة فنية، بل هي حكاية عن صوت صار ذاكرة مشتركة للعرب جميعًا، وصدى يربط الماضي بالحاضر، ويؤكد أن الموسيقى قادرة على أن تكون جسرًا للروح، وأن الصوت الصادق يمكن أن يتحول إلى وطن يسكن القلوب عبر الزمن.
من بين التحولات الفنية التي عرفها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، لا يبرز تعاون فني أكثر إثارةً للسجالات واستحقاقاً للتحليل من الشراكة الإبداعية بين زياد الرحباني الذي غيبه الموت هده السنة عن 69 عاماً، ووالدته فيروز التي كانت تمثل الأيقونة اللبنانية المثالية وصوت الحنين والسمو الروحي.
قطع زياد حبل الود مع الراحبة،حيث تميّزت ألحانه لفيروز بشيء من الخصوصية النغمية والعاطفية. لم تكن الألحان مجرد وسيلة لإبراز جمال الصوت، بل كانت في ذاتها بنية درامية تتحدث عن هشاشة الإنسان، عن ضياعه، عن قلقه الوجودي.
كانت تعبيرات حسية عن مشاعر كامنة، يقدِّمها صوت أيقوني أصبح أكثر إنسانية وهشاشة. لا يمكن الحديث عن ألحانه لوالدته فيروز من دون التوقف عند الجانب التجريبي فيها. تعامل زياد مع الجملة الموسيقية باعتبارها مساحة مفتوحة للتشظي والتداخل، وليس بوصفها هيكلا تقليديا.
في مقدمة الموسيقية الخالدة لمسرحية "ميس الريم"، ظهرت بوادر هذا التجريب، لكنه تبلور أكثر في أعمال لاحقة مثل "وحدن" وفيروز في بيت الدين، إذ بدا التوزيع الموسيقي أجرأ، والحوار بين الآلات أحدّ، وكأننا أمام أوركسترا تعبّر عن تناقضات المجتمع اللبناني كله.
لم يكن ممكنا لفنان مثل زياد أن يكتفي في تعاونه مع فيروز بأغانٍ رومانسية فقط، ولكنه كذلك لم يكن ليقبل باستنساخ الأغنية الوطنية المباشرة. نقلت أغنيات زياد صوت فيروز إلى مناطق اشتباك سياسي ناعم.
تحمل أغنية "بيتي صغير بكرا بيكبر" بُعدا استشرافيا لوطن مكسور. لم تكن هذه الأغاني شعارات سياسية، لكنها مواقف مشحونة بالمعنى، تقول الكثير من دون أن ترفع الصوت. يطاول ذلك أيضا الأغاني ذات الطابع العاطفي التي تحمل في خلفيتها تأملا اجتماعيا.
أغنية "بكتب اسمك يا حبيبي" ليست مجرد نشيد حب، بل قصيدة عن الحب في ظل الخوف والمراقبة، في مجتمع ما بعد الحرب.
يُحسب للراحل زياد ذو الخلفية اليسارية أنه لم يسقط في استنساخ المدرسة الرحبانية الأولى، بل خلق مدرسته الخاصة وهو يعمل مع رمز تلك المدرسة.
استطاع أن يستخلص من صوت فيروز أبعادا جديدة، لم تبرز في أعمال الأخوين رحباني: صوت الحزن اليومي، صوت المرأة العادية، صوت الخسارة. كما أن هذا التعاون أخرج فيروز من جمود الأيقونة، وأعادها إلى الزمن، إلى التفاعل مع الواقع اللبناني والعربي الجديد، من خلال موسيقى تسير على الحافة، فيها خشونة المدينة، وغموض العلاقات، ومرارة السخرية.
كانت ألحانه لوالدته تجربة قائمة بذاتها، فيها من الجرأة ما يكفي لتقسيم جمهورها، وفيها من الصدق ما يجعلها خالدة. كان زياد يكتب ويلحن من ألم شخصي، ومن رؤية جمالية وفكرية، ونجح في أن يجعل فيروز تُغني من مكان أعمق، وأكثر التباسا وتعقيدا، وبهذا المعنى، فإن التعاون بينهما هو نموذج لفن لا يخاف من الزمن، ولا من التغيير، ولا من خيبات الجمهور.
فن صادق، يطرح الأسئلة بدل أن يكرّس الأجوبة، ويمنح الصوت البشري كل هشاشته، وكل عظمته..زياد مع فيروز كان يمثل صوت الحزن اليومي والخسارات
موسيقى زياد الرحباني... سيرةٌ خطّتها الأغاني والمسرحيات،من السمات اللافتة في ألحان زياد الرحباني لفيروز هي علاقته غير التقليدية بالزمن الموسيقي.لم يكن مشغولا بضبط الإيقاع وفق نماذج الطرب الكلاسيكي،
بل ترك للزمن مرونة تسمح بتفاوت الإيقاع، وبالانتقال من لحظة نغمية إلى أخرى كما لو كان يكتب نصا داخليا لا يحتاج إلى نهاية مغلقة. كذلك،لا يسعى زياد إلى إبراز الأداء الصوتي على أنه غاية مستقلة،بل يعامله بوصفه أداة تعبير صادقة، تتساوى في أهميتها مع الآلات والتوزيع.
في أعماله،يعيد صياغة البيئة السمعية بطريقة تتيح للمستمع أن يشعر بتوتر النص، أو سخرية الموقف، أو هشاشة العاطفة. وقد يكون التوزيع عنده في لحظات معيّنة أقرب إلى بيان سياسي أو موقف اجتماعي، إذ يصبح الصمت الموزون، أو الاحتكاك بين الآلات، أو كسر الإيقاع، أدوات دلالية لا تقل أهمية عن الكلمة.
كما أن التوزيع في أعماله لا يهدف إلى إرضاء الأذن، بل إلى إثارة الوعي الصوتي لدى المتلقي. إنه توزيع يعلّم المستمع أن يصغي لا أن ينفعل فقط، وأن يلاحق التفاصيل، لا أن يندمج في موجة واحدة. وربما كانت هذه التقنية من أبرز ما ميّز أعماله مع صوت فيروز، إذ حرّكها من وسطها الأيقوني إلى تخوم جديدة، فيها الصوت جزء من منظومة كاملة، وليس مطلقاً منفرداً.
من خلال صوت فيروز، أعاد زياد صياغة صورة المرأة في الأغنية العربية. لم تعد المرأة بطلة أسطورية، ولا حبيبة مثالية، بل إنسانة تعاني وتشك وتفتقد، وتشكو الجرح والخذلان، لكن الجملة الموسيقية لا تضخم الألم، بل تمنحه شكله الإنساني البسيط.
هذه النظرة، التي تختلف عن تمجيد المرأة الحالم عند الأخوين رحباني، منحت صوت فيروز صدقاً واقعياً يتجاوز المثاليات. كانت ألحان زياد الرحباني لفيروز تأملات متوترة، غالباً ما تنتهي بلا حسم. لم يكن الاغتراب فيها يمثل موقفاً سياسياً فقط، بل كان فلسفة حياة، تجعل من الموسيقى ملاذاً هشّاً في مواجهة التفاهة والخراب.
لحنّ زياد مجموعة كبيرة من الأغاني لوالدته، من أبرزها "كيفك إنت"و"ولا كيف"و"عودك رنان" و"قهوة"...
وتبقى فيروز أكثر من مطربة،بل أسطورة، فهي ذاكرة ووجدان وجرس يوقظ في الأرواح شعور الانتماء والصفاء.
صوتها الذي ولد في أزقة بيروت الفقيرة صار وطنا رحبا يسكن قلوب الملايين، ويعبر الأزمنة والحدود ليؤكد أن الفن الأصيل لا يشيخ ولا يندثر، بل يزداد بهاء مع تعاقب الأجيال.
وفي كل صباح يتجدد حضورها كأنها لا تزال تغني للمرة الأولى، شاهدة على أن الجمال وحده قادر أن يخلّد الإنسان.
عبد المجيد مصدق






0 التعليقات