لتيارات الاسلام السياسي حسابات ترغب في تصفيتها مع وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية الاستاذ احمد التوفيق، المثقف والاديب و العالم المتبحر في الشان الاسلامي فقها وفكرا وتاريخا، فالرجل لا ينهل من نفس منهلها و مساره الشخصي جمع بين التصوف ومناهج البحث التاريخي والانتاج الادبي مما يجعله اقوى منها و اقدر على تسفيه حججها بحجج تتجاوز التكرار والاجترار البهائمي و تحفر عميقا في تراث التدين المغربي الذي ساهم بحظ وافر في صياغة وجودنا الانتربولوجي كامة مغربية صمدت في وجه القوى الاستعمارية قرونا و اثرت في تدين وثقافة محيطها الذي ورث عنها نمط تدين صوفي يمثل اليوم رابطة اقوى وامتن من الروابط التي بنى عليها الاستعمار استراتيجية الاستقلال في اطار التبعية كما طرحها الجنيرال دوغول بعد ان الزمت توصية الامم المتحدة لسنة 1959 القوى الاستعمارية بمنح الاستقلال لمستعمراتها السابقة.
مالم يفهمه محدودو المعرفة الغارقون في حشرات كتبهم الصفراء من كلام احمد التوفيق عندما تحدث عن علمانية المغاربة هو انه كان يقوم بتوصيف لواقع قائم ومنظور ويومي ينخرطون فيه هم انفسهم بتاسيس حزب سياسي وجمعيات دعوية وسياسية تشارك في التدافع السياسي والايديولوجي الذي يعرفه المجتمع المغربي سعيا لتحقيق الغلبة بالمشاركة في الانتخابات الجماعية والبرلمانية بالنسبة للبعض وتقديم الدعم من طرف البعض الاخر لهذا البعض باساليب مختلفة تندرج في اطار الممارسات التي عممتها الحداثة كاساس تقوم عليه الديمقراطية وايضا التوجهات الفاشية المضادة للديمقراطية التي افرزتها الراسمالية تاريخيا كما افرزت توجهات اخرى لايتسع المجال للخوض فيها. فالقانون الوضعي، الذي قام بعلمنة القانون الديني السابق عليه كما ورد ذلك في ابحاث علماء وباحثين كبار ومنهم جاك شوفاليي صاحب الكتب المرجعية "دولة القانون" و"دولة مابعد الحداثة"، هو مايؤطر معاملات المجتمعات المختلفة اليوم، وهو مايؤطر معاملات المغاربة، وحتى المحاولات الاولى لاسلمة القانون المغربي في بداية الاستقلال، بعد تكوين لجنة لهذه الغاية استجابة لعلال الفاسي وعدد من الفقهاء، تم تجاوزها بعد اعداد مدونة الاحوال الشخصية (التي صارت مدونة الاسرة مند 2004)، وهي نفسها كانت محاولة لتكييف الموروث الاسلامي مع القانون الوضعي او صياغة قانون وضعي اسلامي يلغي العقوبات القاسية (مثل بتر الاطراف والرجم وغير ذلك) والعبودية و التمييز الديني وغيره، اذ تم اعتماد عدد من القوانين ذات الاصل الفرنسي، وفي مقدمتها ظهائر الحريات العامة الصادرة في 15 نونبر 1956 في فترة حكومة بلافريج، و قانون المسطرة الجنائية في سنة 1959 في فترة حكومة عبدالله ابراهيم والقوانين المؤطرة للاقتصاد الوطني وللقضاء والتعليم والصحة وغيرها التي يتم تعديلها او تحيينها او اغناؤها بقوانين جديدة منذئذ، مع العلم ان الدولة المغربية سارعت بعد الاستقلال الى تعميم القوانين المستوحاة من القانون الفرنسي والمترجمة عنه في منطقة الحماية الاسبانية في الشمال سابقا ومنطقة طنجة الدولية في اطار مسعاها الى انهاء الشتات الاستعماري.
باستثناء الاحوال الشخصية والارث المؤطرين بالشريعة، التي تم تجاوز بعض احكامها التي لا تلائم العصر في القانون الجنائي الصادر سنة 1963 ايضا، فان القانون الوضعي الحديث، و في قمة هرمه الدستور الذي اعتمدت صيغته الاولى سنة 1962، هو الذي يؤطر الحياة العامة والخاصة في المغرب، وبصدد امارة المؤمنين، فانه من المعروف تاريخيا ان الزعيم علال الفاسي هو من الح على الملك الراحل الحسن الثاني من اجل ادراجها في الدستور، رغم اسقاطه من رئاسة لجنة اعداد الدستور وحل اللجنة التي شكلت محاولة للحسن الثاني لتجاوز مطلب المجلس التاسيسي، و لم يكن ادراجها يعني، باي حال من الاحوال، اسلمة الدولة، لان امير المومنين في الدستور تعني مندئذ امير كل المؤمنين، مسلمين كانوا او غير مسلمين، يساوي في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين ايا كانت معتقداتهم، مايعني الغاء التمييز ومنطق الجزية، وادراجها يشير الى الاخذ بعين الاعتبار الروابط التاريخية مع المواطنين التابعين لدول حديثة التاسيس بعد نهاية الاستعمار فيما كان مجالا امبراطوريا وحيويا مغربيا والمرتبطين روحيا وعاطفيا بالمغرب وسلطانه ثم ملكه.
العلمانية كما تحدث عنها الاستاذ احمد التوفيق، الذي التقيته مرة واحدة في مكتب المرحوم عبدالجبار السحيمي ولا اعرفه الا عن طريق ماكتب وماعرفته عنه عن طريق الاستاذ عبدالغني ابو العزم، لاتعني غير هذا المعطى السوسيولوجي والمؤسسي، و من المؤكد جدا، ونحن بصدد مثقف كبير، ان العلمانية بالنسبة له لا تنحصر في نموذج واحد، او في النماذج الفرنسية او التركية او السوفياتية التي ترتبط بتجارب مجتمعية تاريخية، بل هي تستوعب تجارب اخرى كالتجربة الانجليزية حيث ترسخت الدنيوية (sécularisation) او الدنمارك او غيرها دون ان تتبنى العلمانية الفرنسية التي اقرت بقانون 1905 الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة. ويبدو لي، وعلى عكس ما استغله بكلبية سياسية البعض، فان التوفيق يقترب من راي الباحث اوليفيي روا في كتابه "الاسلام والعلمانية" الذي يخلص فيه الى ان المجتمعات المسلمة طورت صيغ خاصة بها للعلمانية تختلف عن علمانية فرنسا و يرد فيه في نفس الوقت على التعامل الاقصائي مع المسلمين في فرنسا بدعوى الدفاع عن العلمانية.
تدخل وزير الاوقاف في البرلمان شكل دريعة للاسلاميين لممارسة تحريض خطير ليس ضد الرجل، بل وضد كل ماله صلة بالعلمانية والحداثة، وهذا طبيعي بالنسبة لمن تسكنهم الافكار الرجعية، لكن المثير ان التقدميين لم يحركوا ساكنا وكان هذا النقاش لا يعنيهم، و كان الفكر صار بالنسبة لهم شانا من الماضي، واخشى ما اخشاه ان ينجر الكثيرون في هذه الظروف التي تعرفها منطقة الشرق الاوسط الى قوقعة هوياتية تضيع الفرق بين مناصرة الشعب الفلسطيني وقضيته وبين مناصرة دعاية ايرانية ذات اهداف قومية وجيوسياسية، اذ لو ضاع هذا الفرق لصار التقدمي يصب في مصب الاسلامي و لفقد افق الانفلات من التخلف