11‏/09‏/2024

ذاكرة التاريخ..أيلول الأسود 🇵🇸

 


شهدت نهاية ستينات القرن الماضي صراعا وتوتراً داميا في العلاقة بين السلطات الأردنية وبين المنظمات الفدائية الفلسطينية التي اضطرتها نكسة 1967 للتراجع إلى شرق نهر الأردن،بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء في انتظار فرصة استجماع الأنفاس العربية واستعادة فلسطين وباقي الاراضي العربية المحتلة.كانت أصعب فترات هذه المرحلة الاسابيع الثلاثة الاولى من شتنبر 1970، حيث سقط الآلاف من القتلى والجرحى في حرب كشف التاريخ لاحقا حجم التلاعب الذي مارسته القوى الدولية لتأجيجها لمصلحة الكيان الصهيوني على حساب الطرفين وامتداداتهما العربية.كان التوتّر والخلاف على أشدهما بين السلطات الأردنية والفصائل الفلسطينية، وكانت أصابع الجميع على الزناد بالمعنى الحرفي للعبارة.فالمواجهات المسلحة بين الجانبين كانت قد أصبحت خبزا يوميا للأردنيين والفلسطينيين، قبل أن تأتي أحداث أيلول الأسود استثنائية في العام 1970 ويأمر الملك حسين جيشه بالدخول في مواجهة شاملة مع المنظمات الفلسطينية، في حرب يكاد يُجمع الكل على أنها كانت معركة من أجل البقاء.لقد اتهم النظام الاردني المقاومة الفسطينية بإنشاء دولة داخل الدولة...!!؟ووصلت العلاقة بين الطرفين الى مرحلة اللاعودة، وأصبحت صحف الفصائل الفلسطينية تُقدِم على التجريح في المسؤولين الأردنيين بطريقة شملت الملك نفسه، وبات الجيش الأردني النظامي موضوع سخرية وإهانات، مما جعل منسوب الغضب مرتفعا.

تعود جذور المشكلة بين الأردن والفصائل الفلسطينية في الأصل إلى "النصر" الوحيد الذي حققه العرب بعد هزيمة 1967، أي ما يعرف بـ"معركة الكرامة" التي انتصر فيها الجيش الأردني رفقة المقاومة القلسطينية عام 1968 في مواجهة جيش الكيان الصهيوني الذي عبر نهر الأردن نحو منطقة الأغوار وتم صده ورجع مهزوما وبخسائر بشرية لم يكن يتصورها،فبعد تلك المعركة تحوّلت حركة فتح الفلسطينية من مجرد مجموعة مسلحة إلى حركة تحرر وطنية سرعان ما انضمت إليها عدة مجموعات فدائية اضافة لتواجد فصائل فلسطينية اخرى على تخوم فلسطين، مما أخل بميزان القوى داخل الأردن وزرع بذور الخلاف، حيث كانت الفصائل الفلسطينية وإلى جانب سلاحها تحظى بشعبية ودعم كبيرين في الأردن والمنطقة العربية.

وقد جرى احتواء هذا الخلاف وهذا القلق نسبيا في نوفمبر 1968، وذلك عبر ما يُعرف بـ"اتفاقية البنودالسبعة" التي قضت بإبعاد منظمات المقاومة الفلسطينية عن المدن الأردنية وتقييد حركتها، لكن تلك البنود لم تصمد طويلا أمام جموح بعض الفصائل.

ويحصي بعض الدارسين مئات المواجهات المسلحة التي جرت بين الطرفين طيلة عامي 1968 و1969، قبل أن يتحوّل الوضع في بداية 1970 إلى معارك دامية، لدرجة أصبحت معها عمّان توصف بأنها "هانوي العرب"، في إشارة إلى العاصمة الفيتنامية التي كانت مكان تجمّع المقاومة الفيتنامية لمحاربة الأمريكان.وإلى جانب الاحتكاكات الداخلية، كان النشاط المسلح للفصائل على أطراف فلسطين وداخلها عبر التسلل والقيام بعمليات فدائية،يحرج النظام الأردني أمام القوى الدولية، ويتسبب في ردود فعل قوية من جانب الكيان الصهيوني وعرابيه، بما فيها ضربات جوية وصاروخية. وأدى اجتماع هذه العوامل كلها إلى المواجهة الدامية الأولى التي جرت في فبراير 1970، حيث سقط ما يفوق 300 قتيل جلهم من المدنيين، قبل أن يتمكن الملك حسين من نزع الفتيل بإعلانه الشهير "نحن كلنا فدائيون".البعض يعتبر تلك الأحداث حراكا شعبيا أو حربا أهلية أو ما شابه دلك لان النسيج البشري والمجتمعي في الاردن يتكون أغلبه من الفلسطينيين،والاردن هي صنيعة اتفاقية سايس-بيكو،والحقيقة أنه لم يكن أكثر من صراع على السلطة، وصراع بين سلطة معترف بها دوليا وقوى مقاومة تريد أن تأخد هذه السلطة بطرق ثورية لمواجهة الكيان الصهيوني،في الوقت الذي كانت المواجهات شبه اليومية والحوادث التي تقع بين السلطات الأردنية والفصائل الفلسطينية قابلة للاحتواء عبر الوساطات العربية،وحرص الملك حسين على عدم انفراط عقد التوازن بين المنظمات الفلسطينية وبين أجهزته الأمنية والعسكرية،حتى لا يسقط نظامه،وقد نجا من محاولتي اغتيال،في تلك السنة،جاءت عملية اختطاف الطائرات المدنية الغربية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتنقل الخلاف إلى مستوى دولي أفقد الأطراف المحلية سيطرتها على الوضع.

ففي 6 شتنبر عام 1970، اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 4 طائرات مدنية،وأجبرت اثنتين منها على الهبوط في الاردن وأتبعتها لاحقا بطائرة ثالثة،وطالبت بالإفراج عن أسرى مقاومين (أعضاء في الحركة الفلسطينية) معتقلين في ألمانيا وسويسرا والكيان الصهيوني،وتم نقل طائرتين إلى مهبط سابق لسلاح الجو البريطاني في وسط الصحراء الأردنية،والمعروف باسم مهبط داوسون. وفجرت الطائرة الثالثة في القاهرة بعد إطلاق سراح الركاب وطاقمها.وفشلت محاولة اختطاف الطائرة الرابعة،حيث استشهد احد المقاومين  واعتقلت ليلى خالد.وحول مسار الطائرة إلى أقرب مطار، وهو مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية لندن.وكانت ليلى خالد هي المسؤولة عن العملية، وقد تم احتجازها لدى بريطانيا.وقد أجبر وجودها هناك لندن على الدخول في أزمة دولية كبرى.وطالبت الجبهة بالإفراج عن ليلى خالد وعن فدائيين فلسطينيين آخرين كذلك. وبعد بضعة أيام اختطفت مجموعة تابعة لها طائرة مدنية أخرى في طريقها من بومباي إلى بيروت، حيث احتجز المسلحون أكثر من 300 رهينة منهم 65 بريطانيا.وتلخص خلاصات محاضر مجلس الوزراء الصادرة في 9 سبتمبر  المعضلة التي واجهتها الحكومة البريطانية.وتقول بالنص: "مجلس الوزراء يواجه قرارا صعبا ومعقدا، امرأة اسمها ليلى خالد محتجزة في البلاد، ويعد إطلاق سراحها عنصرا أساسيا في الصفقة التي يحاول قادة الجبهة الشعبية إبرامها،وبمرور 6 أيام على الأزمة حققت المفاوضات بعض النجاح الأولي، وتم إطلاق سراح بعض الرهائن، ومعظمهم من النساء والأطفال، دون قيد أو شرط.لكن المقاومين نفد صبرهم.وفي12 شتنبر وكإشارة تحذير، قاموا بتفجير 3 طائرات،مما اضطر رئيس الوزراء البريطاني حينئذ إدوارد هيث في النهاية الى القول:على أن بريطانيا ليس لديها خيار سوى الإفصاح عن نواياها في إطلاق سراح ليلى خالد،

وفي الساعة السابعة من مساء يوم 13شتنبر بثت إذاعة بي بي سي بالعربية بيانا للحكومة البريطانية قالت فيه "إن المملكة المتحدة سوف تستبدل ليلى خالد بالرهائن." وتكشف أوراق مجلس الوزراء البريطاني أن الملك حسين في ذروة قلقه، طلب من الحكومتين البريطانية والأمريكية، توصيل نداء إلى الكيان الصهيوني لقصف القوات السورية التي كانت على وشك التدخل إلى جانب المسلحين.وقد سببت هذه المناشدة غير المسبوقة من قبل حاكم عربي يطلب من الصهاينة قصف جار عربي، ذعرا كبيرا في لندن،وهي الرغبة التي احجم البريطانيون عن ايصالها الى الكيان الصهيوني حفاظا على ارواح رعايهم،وعلى الرغم من كون بريطانيا أقرب حليف غربي للملك حسين،وافقت الحكومة البريطانية على عدم تمرير الرسالة إلى الصهاينة وتركتها في أيدي واشنطن ،وبعد أسبوعين تم تبادل الرهائن بأمان مقابل ليلى خالد و6 مسلحين فلسطينيين آخرين كانوا محتجزين في سويسرا وألمانيا.

اختلفت الآراء حينها داخل الفصائل الفلسطينية بين معارض لتلك العمليات، لأنها تحرّض الرأي العام العالمي على المقاومة، وبين مؤيد بوصفها أسلوبا ناجعا للضغط على الكيان الصهيوني وحلفائه.وتكشف وثائق سرية تم الكشف عنها انه تلقت الخارجية الأمريكية يومها برقية من سفارتها في بون بألمانيا، تخبر بوقوع سلسلة اختطافات لطائرات ركاب مدنية، منها طائرة تابعة للخطوط الأمريكية كانت متجهة من فرانكفورت إلى نيويورك وعلى متنها 142 راكبا، وطائرة سويسرية كانت في طريقها من زيورخ إلى نيويورك وعلى متنها 150 راكبا، إضافة إلى طائرة بريطانية في طريقها من بومباي إلى لندن، وتم تحويل مسار الرحلات الثلاث لتهبط في مطار داوسن المهجور في الأردن،لقد تحولت عملية اختطاف الطائرات إلى أزمة دولية،ومعها تحوّلت واشنطن إلى مركز القرار العالمي في هذا الموضوع،ليس لتحرير الرهائن المدنيين دون خسائر، بل للعب دور أكبر يضرب عصافير عربية عديدة بحجر صهيوني واحد.فقد اجتمع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بكبار مسؤولي إدارته، وأبدى مدير المخابرات ملاحظة وقال: لن تكون هناك فرصة للسلام في الشرق الأوسط ما لم يذهب أحد إلى هناك، أي إلى الأردن، لترتيب الأوضاع على الأرض.

وتكشف وثائق الأرشيف الأمريكي السري تفاصيل ما جرى حينها، حيث سأل نيكسون: ماذا ستفعل الأردن إذا ساعدها الكيان الصهيوني؟ فأجاب مساعد وزير الخارجية جوزيف سيسكو: إنّ تدخل الصهاينة سيؤدي إلى موت الحسين معنويا، وإلى تشكيل جبهة عربية موحدة ضد إلصهاينة والولايات المتحدة،وهو رأي أيده وزير الخارجية رودجرز، محذرا من أن أمريكا ستدفع ثمنا باهظا لمثل هذا التدخل في الأردن.

كان الرجل الذي لعب دورا مركزيا في وضع الخطة الأمريكية لتفجير الوضع في الأردن، هو مستشار الأمن القومي الداهية هنري كيسنجر.ففي 9 شتنبر 1970، ترأس كيسنجر ما يشبه مجلس حرب في واشنطن، أسفر عن قرارات مفادها أن الكيان الصهيوني سيكون أفضل من قوات أمريكية في دعم الملك حسين ضد الفدائيين وربما ضد العراقيين، حيث كان يوجد 17 ألف جندي عراقي في الأردن و أشار كيسنجر إلى شعور الفدائيين الفلسطينيين بتوتر إزاء احتمال حدوث تدخل أجنبي، وأنهم أخبروا مسؤول الصليب الأحمر الدولي الذي تولى التفاوض معهم حول الرهائن أنهم سيفجرون الطائرات بمن فيها إذا حدث تدخل خارجي.وجاءت خاتمة الوثيقة ممهدة للهدف الذي سعى إليه كيسنجر، حيث كتب للرئيس أن السفارة الأمريكية في عمّان تقول إن الملك حسين مازال غير راغب في مواجهة أجنبية مع الفدائيين، ويعتبر أن الجيش سينتصر حتى لو انضم العراقيون إلى الفلسطينيين.

وبحسابات الحرب الباردة،تحوّل الموقف إلى أزمة دبّرها اللاعبون الكبار بحسابات جيوإستراتيجية لا تقيم اعتبارا كبيرا لمصالح الفلسطينيين ولا لدول المنطقة العربية.ففي واحد من تقاريره المرفوعة إلى الرئيس نيكسون، عبّر كيسنجر عن مخاوفه من أن يؤدي التدخل الأمريكي المباشر إلى تحالف الجنود الأردنيين مع الفدائيين لمواجهة التدخل الأجنبي، ومن ثم ينتهي نظام الملك حسين تماما، ورجّح في المقابل الدفع بتدخل الكيان الصهيوني عند الحاجة، مع دعمه أمريكيا في الخفاء.وكشفت وثائق اخرى من الأرشيف الأمريكي؛رفع عنها طابع السرية سنة 2009، تشجيع واشنطن للصهاينة بالتدخل لمساعدة النظام الأردني والالتزام بحمايتهم إذا تدخل الاتحاد السوفياتي.ورغم استبعاد المسؤولين الأمريكيين احتمال تدخل مصر في المعركة في حال اندلاعها، فإنهم حرصوا على توفير الحماية اللازمة للكيان الصهيوني إذا ما تطوّرت المواجهات.من جانبها تكشف الوثائق السرية البريطانية كيف أن الملك كان يخشى من تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط إلى حرب شاملة مدمرة لو سيطر الفلسطينيون الذين تؤيدهم الجماهير العربية على الأردن، مما دفعه إلى مناشدة الحكومة البريطانية ومطالبتها بإقناع الصهاينة بالتدخّل حين دفعت سوريا ببعض قواتها إلى المعركة.كما أن الوجود العسكري العراقي أكثر ما يقلقهم كأمريكيين فأكثر من 17 ألف جندي عراقي موجود هناك يمكنهم إسقاط حكم الملك حسين بسهولة، كما أن الملك كان يخشى ذلك بالقدر نفسه نظرا لقدراتهم العسكرية وعلاقة العراق بالاتحاد السوفياتي وهذا هو الأهم والأخطر.

في هدا ظل هدا الوضع المتشعب قرر نيكسون دعم النظام الأردني حيث قال"أعتقد أن الأفضل لنا أن نذهب لدعم الملك، ما زلت أعتقد أن الأفضل لنا هو أن نذهب هناك ونساند الملك".. عبارات ظل الرئيس الأمريكي نيكسون يرددها خلال محادثة هاتفية مع هنري كيسنجر وكان الحديث يدور حول الملك الراحل حسين ومساندته في الأحداث التي اجتاحت المملكة في شتنبر/أيلول 1970.خطورة الموقف تفاقمت أكثر، فأثناء قيام عرفات بتلاوة البيان المتضمن لمطالب الفدائيين مقابل الإفراج عن الطائرات، جاء نبأ إقدام عناصر الجبهة الشعبية على تدمير الطائرات، مما شكل إحراجا كبيرا للأردن.ودفع الخارجية الأمريكية الى ابلاغ السفير الأردني، أن على الملك أن يثبت قدرته على بسط سيطرته على بلاده وممارسة سلطة واضحة على جميع أنحاء المملكة، وأن الشك القائم يؤثر على إمكانية تحقيق تسوية سلمية في الشرق الأوسط، وأن الكيان الصهيوني يسأل: مع من سيصنع السلام في الأردن..!!؟طبعا إضافة الى هدا الدعم السياسي العلني كان هناك دعم عبر تزويد الاردن بالأسلحة بطريقة خفية وعبر عدة وسطاء مما دفع الملك حسين إلى حسم الأمر والتحرك عسكريا ضد الفدائيين.وأخبر كيسنجر الرئيس نيكسون بحسم الملك حسين أمره بالتحرك في تلك الليلة ضد المنظمات الفدائية  الفلسطينية، وكانت واشنطن على أتم استعداد للتدخل إذا تدخلت سوريا أو مصر، كما أبلغ الاتحاد السوفياتي أن أي تحرك للعراق وسوريا سيعني دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة.

وفي هذا الإطار،تلقي وثائق بريطانية، سبق أن نشرت بعد رفع السرية عنها لمرور أكثر من 30 عاما عليها، الضوء على أحداث "أيلول الأسود" وكيف تفاوضت بريطانيا مع الفدائيين الفلسطينيين، وكيف طلب الملك حسين من الكيان الصهيوني المساعدة، وكيف اختلفت واشنطن مع لندن في معالجة هذا الملف؟

وهكذا اكتملت عناصر الوصفة السحرية لضرب المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني بحجر واحد، وتحوّل المشهد إلى نهر من الدماء العربية. دعا نيكسون مجلس الأمن القومي إلى اجتماع طارئ في ذلك اليوم، وكان على واشنطن أن تبلغ رسائل عاجلة إلى الكيان الصهيوني، مفادها اتخاذ قرار التدخل من عدمه بنفسها، والاقتصار على الضربة الجوية للقوات السورية، دون اجتياح بري.

الراحل جمال عبد الناصر الذي كان لا زال تحت ثأثير النكسة ويخوض حرب استنزاف مع الكيان الصهيوني، لم تكن في يده في تلك الاثناء الى ورقة الوساطة بين الإخوة الأعداء.

ففي الجزء الأول من مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية المصري السابق، والتي تم توقيف نشرها في محاولتين وقعتا عامي 2010 و2011، يروي هذا الشاهد العيان كيف تولى قيادة عملية الوساطة العربية بين الطرفين المتقاتلين، وكيف تمكن من إخراج ياسر عرفات من الأردن متنكرا ونقله إلى مصر.

يحكي صادق كيف كان في المستشفى يستعد للخضوع لعملية جراحية، فأتته مكالمة الرئيس جمال عبد الناصر تطلب منه السفر فورا إلى الأردن لمحاولة وقف الاقتتال وإنقاذ رموز المقاومة الفلسطينية، وذلك بصفته رئيسا لهيئة أركان الجيش المصري.قال صادق إنه لم يشأ أن يخبر عبد الناصر أنه في المستشفى،ورغم تأكيده أن عمان باتت تحترق وألا وجود لرحلات جوية نحوها، كان عبد الناصر مصرا على تدبّر الأمر والوصول إلى العاصمة الأردنية لإنقاذ الموقف.غادر صادق المستشفى دون إجراء العملية الجراحية، وأمر بتحضير طائرة حربية مدعيا توجهه إلى بيروت، وفي الأجواء غيّر الوجهة نحو عمان، حيث فاجأ المسؤولين الأردنيين بهبوطه وطلبه مقابلة الملك حسين فورا. بعث هذا الأخير مروحية خاصة لتعثّر التنقل عبر الطرق، والتقى بالمبعوث المصري الذي وجده بردائه العسكري، ومظاهر الإرهاق بادية على وجهه.بعد ذلك اللقاء تأكد المبعوث المصري أن السلطات الأردنية لا تعرف مكان ياسر عرفات، فاعتمد على الملحق العسكري بالسفارة المصرية للدخول في اتصالات مع الفدائيين إلى أن وصل إلى عرفات. وبعد أخذ ورد عاد صادق إلى القاهرة حاملا شروط الطرفين لوقف إطلاق النار، فكان أمر جمال عبد الناصر شديدَ التركيز "أحضروا ياسر عرفات حيا".كان الرئيس جمال عبد الناصر واعيا بالحسابات الكبرى وتدخل القوى الدولية في الموضوع، فكان همه الأكبر هو حماية رموز القضية الفلسطينية حتى تواصل المعركة لاحقا.فدعا إلى قمة عربية طارئة في القاهرة، وترتب على هذه الخطوة إرسال وفد عربي بقيادة الرئيس السوداني جعفر النميري، وتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار لم يصمد طويلا، فاضطر الوفد إلى العودة من جديد إلى عمان، على أن تنعقد القمة العربية من جديد يوم 25 شتنبر،رافق صادق الوفد العربي من جديد، لكنه كان في مهمة سرية أساسية هي إخراج عرفات من الأردن. كانت الوسيلة التي سمحت بلقاء عرفات هي نداء وجّهه النميري عبر الإذاعة الأردنية يطلب فيها من الزعيم الفلسطيني ترتيب لقاء معه من أجل التفاوض، وهو ما تم بعد سلوك طرق ملتوية نحو جبل اللويبدة.بعد لقائهم عرفات في مخبئه، عمل المبعوثون على نقله معهم إلى مقر السفارة المصرية حيث جرت مشاورات مكثفة. وبعد فشل المفاوضات، طلب الفريق أول صادق السماح له باصطحاب مصريين حاصرتهم الأحداث في الأردن وإعادتهم إلى بلدهم، وهو ما مكّنه من دسّ ياسر عرفات داخل طائرته، ليصل به إلى القاهرة مثيرا دهشة الرئيس جمال عبد الناصر.

انعقاد القمة العربية من جديد في القاهرة كان فرصة لإجراء مفاوضات جديدة انتهت بالتوصل إلى اتفاق شامل، فكانت نهاية القمة العربية سعيدة بالنسبة للمصريين، حيث ودّع عبد الناصر الفريق أول صادق على أساس خلود كل منهما إلى الراحة، يقول صادق"وبعد ساعات دق جرس الهاتف: عليك بالتوجه فوراً إلى منزل الرئيس عبد الناصر.وقتها قلت لنفسي "سبحان الله، الراجل ده مش حيريّح نفسه أبدا… ولم يخطر على بالي أي شيء سوى أنها مهمة جديدة سيكلفني بها الرئيس عبد الناصر. وفى بيته كانت الفاجعة.. عبد الناصر في رحاب الله،بعد ان انقد المقاومة الفلسطينية من المدبحة".في تلك الايام من ايلول الاسود قَطَعَ جمال عبدالناصر إجازته في مدينة مطروح الساحلية، وكانت عطلة شبه إجبارية فَرَضها عليه الأطباء، وعاد كي يسعى بكل ما يمتلك إلى حقن الدماء العربية، فدعا إلى انعقادٍ عاجلٍ لمؤتمر القمّة العربية، وفي خلال 24 ساعة تجمَّع الحكام العرب في القاهرة حوله لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه.ظلّ عبدالناصر يُردِّد خلال أزمة «أيلول الأسود»  «إننا في سباق مع الموت»، ولعلّه لم يكن يُدرِك حجم الحقيقة المرّة في هذا التعبير الذي قاله قُبيل رحيله المُفاجئ، فلم يكن السباق مع الموت بين الفلسطينيين وبين الأردنيين فقط، وإنما كان بين عبدالناصر شخصياً وبين الموت، كأنه كان يُسابِق ساعاته الأخيرة كي لا تفلت منه قبل أن يتمكَّن من أن يُنهي آخر مهمة ما أراد أن يُقدّمه لأمّته العربية قبل أن يختطفه الموت ويرحل تاركا غصة في حلق الجماهير العربية.فرغم تحذيرات الأطباء بل ورغم فزعهم من مواصلة مثل هذا الجهد طوال أسبوع كامل،  حيث انعقد مؤتمر القمّة العربية ظلّ وجود عبدالناصر ومتابعته لكل الاحداث في فندق هيلتون في القاهرة،ورئاسته للقمة وللمصالحة، انتهى كل شيء يوم توديعه أمير الكويت في مطار القاهرة.

نجح عبدالناصر في تحقيق أهدافه في هذا المؤتمر، وكان الهدف الأول بالطبع وقف سفك الدماء في الأردن، والهدف الثاني يتمثّل في الحفاظ على قوَّة منظمة التحرير الفلسطينية وضمان استمرار عملها تجسيداً لنضال الشعب الفلسطيني، والهدف الثالث الخروج من هذا الوضع الخطير الذي تفجَّر مع حوادث أيلول 1970.

من جانبه يروي الملك الراحل الحسن الثاني، في كتاب مذكراته كيف تدخل لدى نظيره الأردني لطلب الإفراج عن القائد الفلسطيني الراحل أبو إياد وكان هذا الأخير قد اعتقل من طرف السلطات الأردنية في أحداث أيلول الأسود."قلت له: سأوفد إليك مبعوثا فسألني:

 لأي غرض؟فأجبته: سترى، ولكن أصغ إليه بإمعان. إنني لا يمكنني أن أطلب تبرئة أبو إياد.ان الأمر مستحيلا. كما أنني لن أقدم حججا سياسية"، 

صلاح خلف (ابو أياد)، أحد أبرز قادة منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، قال بعد إطلاق سراحه:."كان باستطاعتنا قبل أيلول، لو كنا نريد الحكم، أن نأخذ السلطة من الملك حسين، أقولها بصراحة، لو أردنا ذلك لفعلناه قبل أيلول"، 

تقدّر المصادر أعداد ضحايا "أيلول الأسود" وامتداداته السابقة واللاحقة بعشرات الآلاف، من بينهم زهاء أربعة آلاف قتيل أغلبهم من جانب الفدائيين الفلسطينيين، علاوة على الجرحى من الطرفين.وانتهت المواجهة بإخراج الفصائل الفلسطينية من الأردن وانتقالها إلى لبنان، وهناك تجددت الحروب ووقعت مجازر أخرى شهيرة ستظل وصمة عار في جبين التاريخ الإنساني حملت توقيع لقطاء العصابات الصهاينة،وبعد مرور عام على تلك الأحداث الدامية في الأردن، أسست حركة فتح منظمة "أيلول الأسود"."لم يكن لدينا لا صواريخ ولا سلاحا جويا، لم يكن لدينا إلا البندقية لهذا فكرنا في تأسيس منظمة أيلول الأسود كي تتحمل كل الوساخات إذا فشلت المحاولة، فبدأنا في تشكيل خلايا من المقاتلين"، كما يقول أبو داوود أحد قادة المنظمة.

بعد طرد المقاومة الفلسطينية من الاردن كأحد أهم دول الطوق المطلة على فلسطين السليبة حلت لعنة الانتقام،فكانت غاية هذه المنظمة الجديدة الانتقام مما جرى للفصائل الفلسطينية في الأردن، وكان أبرز ما قامت به هو اغتيال رئيس وزراء الأردن حينها "وصفي التل" أثناء مشاركته في مؤتمر انعقد بالقاهرة.

يقول نذير رشيد مدير المخابرات الأردنية السابق: "عرفناها قبل شهر من الاغتيال، فكلّمته وقلت له لا تذهب إلى اجتماع وزراء الدفاع العرب في القاهرة، وكان هو في الوقت نفسه رئيس الوزراء ووزير الدفاع، لكنه أصرّ وقال إن مصر دولة كبيرة وأنا ذاهب إلى دولة مؤسسات، وفي النهاية علينا ألا ننعزل عن العالم".

"هذه مؤامرة، من كان وراءها وخطط لها ودفع إليها هو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية".بهذه العبارات الواضحة المباشرة لخّص الراحل ياسر عرفات موقفه من الأحداث الدامية التي عاشتها فصائل المقاومة الفلسطينية وانتهت بنهر من الدماء العربية التي بلغت ذروتها في شهر شتنبر/أيلول 1970.

وفي 27 شتنبر/ أيلول وقع الملك حسين وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات اتفاقا لوقف إطلاق النار تحت رعاية الراحل عبد الناصر،بعد 10 أيام من القتال المرير.

تركت معارك أيلول الذي اصبح لونه في عرف التاريخ العربي أسودا،نذوبا في الذاكرة الفلسطينية عمقت من جروح استعمار الوطن وشتات نصف الشعب الفلسطيني .. وذكرى جرح أدمى وجدان العرب،

وسيعود أيلول مرة اخرى لبنانيا برعاية دولية لطرد المقاومة الفلسطينية وارتكاب مجزرة ثانية في مخيمي صبرا وشاتيلا في حق المشردين المدنيين العزال،بعد سقوط بيروت ثاني عاصمة عربية بيد لقطاء العصابات الصهيونية..


عن صفحة مجيد مصدق

التالي
هذه اخر تدوينه
رسالة أقدم
  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: ذاكرة التاريخ..أيلول الأسود 🇵🇸 Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top