08‏/05‏/2024

صادق جلال العظم بصدد صادق جلال العظم


كثيراً ما طُلب مني تقديم معلومات عن نفسي لأسباب شتى، منها المهني ومنها العلمي ومنها الأمني، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتوجه إليّ أحد بطلب لأقوم بتقديم نفسي بنفسي إلى الآخر. وجدت في الطلب تحدياً لا بأس به، لأنني سأكون أنا الذات والموضوع في اللحظة ذاتها. لن أقدم نفسي على طريقة البوح بمكنونات النفس وأسرار الحياة، أو بسرد الاعترافات بكل ما هو حميم وشخصي وخاص، أو عبر الجرأة الزائدة على الذات. هذا ليس أسلوبي وأريد أن أحتفظ بالكثير لنفسي ولذاتي بعيداً عن أعين الغرباء؛ وإلا فما معنى أن أكون ذاتاً لنفسها وليس لغيرها فحسب؟ فإذاً: لا بوح، لا اعترافات، لا وجدانيات، لا غراميات، لا وشوشات، لا استغابات، لا نسائيات، لا نميمة، لا عواطف أو انفعالات، بل شخصية عامة تحتفظ لنفسها دوماً وللأقربين أحياناً بخصوصياتها وحميمياتها واستمتاعاتها وطرائفها وسقطاتها ومباذلها.

أعيش كمفكر ومراقب وناقد في الحاضر بكل كثافته وتحولاته ومشاريعه. ولذا، لا أحن إلى خـبز أمي، لأنني راشد قطع حبل السرة منذ زمن بعيد، وقتل الآباء جميعاً في داخله لحظة الرجولة والنضج، وقبل تحدي كسب خبزه اليومي بجدارة وثقة بالنفس، وفضّل المسؤولية الفردية، بكل قلقها وأعبائها، على أمن الجمـاعة، كما فضّل الحرية الشخصية، بجليدها ومجازفاتها، على العــودة إلى دفء الرحم الأول.

لا أبكي على الأطلال لأنني ابن عصري بإنجازاته وانهياراته، بفتوحاته وجرائمه، باكتشافاته وشناعاته، باختراعاته ومباذله. ولا أمشي برأس «مندارة» إلى الوراء لأنني أحيا زمني، وزمني هو الذي يعطي المعنى للتطلع إلى الوراء، وإلا فلا طائل أو نفع أبداً من هذا الوراء. ولا تملأ رائحة الياسمين خياشيمي حين أزور باريس لأنني أصر على التمتع حتى الثمالة بباريس وروائحها الحية تاركاً ورائي كل ما هو غير باريس في تلك اللحظة. ولا تشتعل نار ما في رأسي حين أتبختر في شوارع نيويورك ـ ومانهاتن تحديداً ـ لأن غرضي هو التجربة الأولى في حاضرة العالم الحي اليوم والإحساس الأفضل بالحضور في عاصمة المعاصرة. ولا ألعب أبداً لعبة اشتقاق الحلول لمعضلات عالمي العربي الراهن مما يسمى بـ«التراث»، لأن علوم زمني وثقافة زمني وأفكار زمني ومشاريع زمني هي التي تفسر التراث وتحتويه وتعطيه معناه وتقدم الحلول لمشكلاته، وليس العكس على الإطلاق.

يعني هذا أيضاً أنني شخص أممي، أي «كوزموبوليتي» بالمعنى اليوناني الأصلي للعبارة، كما قصد إليه الفيلسوف القديم ديوجينوس، أي «المواطن العالمي»، أو الإنسان الذي يشعر حقاً بأن عالم الإنسان كله هو وطنه بلا ضفاف أو حدود، وذلك لأسباب فلسفية وثقافية وعلمية كلية جامعة تسمو فوق القبيلة والعشيرة والمدينة والدين والمذهب والطائفة وسجن اللغة والمحلة، وقبل كل شيء فوق صدفة مكان مسقط رأسي وزمانه .


بقلم صادق جلال العظم

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: صادق جلال العظم بصدد صادق جلال العظم Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top