05‏/07‏/2022

الدكتور عبد المالك أشهبون يكتب: أمي: يا حب عمري

د.عبد المالك أشهبون


 احتفاء بالذكر ى الأربعينية لوفاة والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته...

أمي: يا حب عمري


صدقَ مَن قالَ: 

ــــ "يظلُّ المَرْءُ طفلاً حتى تموتَ أمُّه، فإذا ماتَت شاخَ فجأة".

ــــ "عندما تموت الأمهات، تصدأ الإبر التي كانت تخيط الجراح...".

ـــــ "ما زلتِ هنا ولا شيء تغير. شمس واحدة، قد تحزن، لكنها لا تغيب أبدا، أنتِ. 

كل فقدان يبدأ كبيرا ثم يتضاءل، إلاّ أنتِ، كل يوم تسكنين خلية منسية من خلاياي. 

سأستثمر هذا اليوم كله لأكون معك، غدا سيجرحني ويسرقك على حين غفوة، مني".  واسيني الأعرج


هكذا قالوا في الأم كثيرا، وفي كل مرة رجعوا في القول خائبين. فقد كانت الكلمات تصْغُرُ أمام مقام الأم التي لا تني تكبرُ. لكن ما أنصفوها إلا يوم قالوا في حقها إنها "أم الدنيا" العجيبة...

 ولأن الحديث عن الأمهات ذو شجون، أجدها فرصة سانحة لأقول لك أمي بعد وفاتك، ما عجزت عن قوله لك على مدى سنين من عمري: 

ــــ أنا اليوم، يا أجمل الأمهات، يتيم في سن ما بعد الستين. خسارتي فادحة، وفقدي لا يقدر بثمن، وعليه ألتمس منك يا "زهرة عمري" أن تتقبلي قليلا من كثير مما يليق بجلال قدرك، من عبارات التأبين التي لا تكفي لوصف سجاياك التي لا تحصى، وخصالك الحميدة، وأنت ترتقين إلى أعلى عليين، بعدما نجوت ـــ بأعجوبة ـــ من مكر وظلم وألم الحياة القاسية. 
الراحلة زهرة الجبل

1) "زهرة الجبل" الشامخة شموخ جبال الأطلس


اليوم أحاول أن أخط بيد مرتعشة، وبحروف حزينة، شذرات غالية من سيرة أمي: "زهرة الجبل". أتذكرها شامخة شموخ الجبل الأشم الذي ولدت في ربوعه، وهي الأنثى القروية الأمازيغية بامتياز. 

واليوم حين نستعيد صورة وسيرة "زهرة الجبل"؛ فإننا نتحدث عن امرأة ريفية جريئة، ومقاومة ومناضلة، كانت لا تجامل أحدا على حساب ما تراه حقا.. جرأتها واعية، تفهم الأحداث، وتداعياتها، وتعرف الواقع وأبعاده.. باختصار كانت بطلة لا يشُقّ لها غبار، بما تحمله، وتتحمّله من صروف الدهر التي لا ترحم!

"زهرة الجبل": تعلمت فلسفة الحياة عن مراس طويل مع الزمن وعراك صعب مع الحياة.. تحملت عناء تربية أبنائها بالصبر الجميل. وصبرت على الكثير من الخطوب كأنه قليل... لم تتعود التقلب على أسرة الرفاه والكسل والخمول...كانت نحلة نشيطة في كل مكان. بل كانت لها يد بيضاء نافعة في كل خطوة تخطوها من أجل أبنائها.

زهرة الجبل" امتداد للجبال الشامخة، بصخوره الصلبة، فالجبل لا ينسى أنه جبل ولو في لحظة ضعف، والصخر لا يلين تحت مطرقة الحياة.. إنه يتفتت ولا يركع! فكثيرا ما غاب عن قاموس حياة "زهرة الجبل" مفردة الراحة، مقابل العمل والتعب والشقاء. 

كانت "زهرة الجبل" في نهاية المطاف إنسانا كالآخرين، يهدها التعب، وتخونها الصحة، وتذرف الدموع في لحظة انكسار. كانت فريدة في كل شيء: في فرحها وفي حزنها، في حلها وترحالها. ففي هذه الحياة الطويلة العريضة مجازا أشخاص نادرون، يرون أن المشاكل العامة هي مشكلتهم الشخصية، وأن إيجاد الحل ومن ثم تنفيذه مسؤولية ملقاة على عاتقهم، ولا يعرفون أن يأخذوا دور المتفرج، بل هم المبادرون دوما، و"زهرة الجبل" كانت واحدة من هؤلاء النادرين المبادرين!!


2) الظلال الوارفة لـ "مي زهرة" في الحي العتيق (ظهر المهراز)

"مي زهرة" أو هكذا كان يحلو لأبناء وبنات الحي أن ينادونها بهذا اللقب الذي يحمل الكثير من الدلالات...كانت مي زهرة مشغولة دائماً، فالأسرة كبيرٌة، والرزق قليلٌ، ولا بد من مطاردة اللقمة أنَّى كانت... فقد كانت تنسج الزرابي في البيت الكبير، وتشتغل عليها بصمت صوفي وبأناة وصبر، وبكثير من الحدب والإتقان، لا تفلت المنتوج النسيجي من يدها إلا بعد أن تكون قد تحققت من جدارته في حمل اسمها، لتبيعه بعد ذلك زيادة في مصروف الأسرة.

لم تكن امي تكتفي بالغزل وحبس نفسها وراء المنسج؛ بل كانت تلبي دعوة جيرانها في كل المناسبات لكي تشرف على المطبخ بنفسها؛ لأنها كانت تعد خبيرة في إعداد أكلات المناسبات، ولا تنسى أن تهتم بالحديقة الخلفية للبيت الكبير، بكل ما فيها من شجر ونبات وأعشاب، ترعى شؤونها بلا كلل ولا ملل.. 

أتذكرها في طفولتي وهي منهمكة في حكّ أواني مطبخنا الألومنيومية بحلفاء الجيكس حتى تصبح كالمرآة، وكانت ربات البيوت الحادكات، في كلّ حيّ شعبيّ يشبه حيّنا، يتباهين بتصفيف هذه الأواني محكوكة لامعة فوق رفوف المطابخ، فكانت أُمِّي تتباهى بأوانيها ملمعة كمرآة أمام جاراتها.

هكذا ربتنا "مي زهرة" بيديها، تخيط ثيابنا، ونحن أفواه جائعة، تطبخ وتطعمنا متكلفة في ذلك أشد العناء، متحايلة للوصول إلى بنا ــــ مستورين ـــ لآخر كل شهر، إذا قدمت لنا في بعض الأحيان طعاماً نزرا لا يغني ولا يسمن من جوع ضاحكتنا، وصبت علينا ضجة ـ  ونحن نعلم أنها تمثيل ـ نجد الطعام وفيرا مشبعا ولذيذا ..

هي التي ربتنا بلسانها، تحثنا بغير إلحاح على الاستقامة والجد والمثابرة. وحين كانت تستريح؛ فإنها تستظل تحت ظلال الحكايات التي كانت ترويها لنا كل مساء، حيث كانت تتمتع بذاكرة حفظية وشفاهية هائلة، فهي تحكي وتحكي وتحكي.. الحكاية وراء الحكاية... بأسلوب شهرزاد في "ألف ليلة وليلة"، بسرد جميل، كاشف عن صور الحكاية المبهرة والمثيرة والمشوقة...

كانت أجمل الأمهات، تجعلنا نضيء مغارات البؤس بما كانت تبثُّه فينا من طاقة إيجابية خلاقة. لم تهادن الريح، ولم تتظاهر بالكسل.. كان همها الأول والأخير أن نتعلم كيف نرتقي بشرف.

3) صباح النور يا "أجمل الأمهات" 

صباح جميل نوارة عمري حين أصحو على رائحةِ قهوةِ أمي.. يا لذاكرتي الشقية.. كدت أنسى أصابعي على مقبض فنجان القهوة الساخن في صباحات فاس الباردة، لكنني لم أنس يوما خبز أمي، وابتسامة أمي التي كانت تمنحني طاقة إيجابية طوال مشاوري الطويلة التي لا تنتهي.. 

صباح النور يا أجمل الأمهات. وأنت تقومين صباحا قبل أن نصحو من رقادنا الطويل. أسمع الآن صوتك الحنون، وأنت تنادين على من على أهبة الانصراف إلى العمل لكي يلتحق بطاولة الإفطار، فيجدك تطرزين الطاولة في باحة البيت بما لذ وطاب من خبز ساخن بلدي معجون بيد البدويات، وبيض بلدي مسلوق جلبته أمي توا من أخمام الدجاج، وها هي تغرق كمشة النعناع في البراد، وهي تنتظر قيامنا بدون كلل ولا ملل. فهي السخاء يمشي على رجليه كالإنسان إن جاز لي التعبير!

هذه هي "زهرة الجبل" كما عرفها القريب والبعيد في قبيلة ناس سعيد الجبل أو في قريتها تربيتين، وهذه هي "مي زهرة" ناشرة الطاقة الإيجابية في كل محيطها في حي ظهر المهراز، وهذه هي "الحاجة زهرة" بعد أن استقرت بها المقام في حي وادي فاس ردحا من الزمن...

  بالمختصر المفيد كانت أمي الحنون مصنع أحلام أبنائها بامتياز، وميدان تحقق تلك الأحلام، وكأن بينها وبين أبنائها عقدا ممهورا بالعطاء... بهذا التفاؤل، بل بهذا اليقين تأتي "زهرة الجبل" لتعلن للجميع أن تعلقها بأبنائها صراحة هو كل ما يربطها بالحياة؛ وها هي اليوم تتركنا زهرة الجبل بعد صراع مرير مع المرض/الأمراض، ترحل "مي زهرة" راضية مرضية، وهي التي لا تريد أن تموت قبل أن ترى أبناءها وأحفادها في بحبوحة العيش. 

هكذا شكل موت الحاجة زهرة صدمة قوية مزلزلة لنفسية أبنائها وبنتها الوحيدة، وحفيداتها وحفدتها، ولكل من عرفها عن قرب أو من بعيد. 

وأخيرا هذه الكلمات في حق المرحومة، وهي المرأة المفردة بصيغة الجمع، تحمل بين طياتها رسالة العائلة الصغيرة والكبيرة مفادها: هذا "ما أريد أن يعرفه العالم عن أمي"، إذ إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء. فسلام لأرواح من تركونا ورحلوا في هدوء. 

أشتقت إليك أبي الحاج عبد الله رمز الأمان، وأنت تغادرنا حين غدر بك الداء اللعين.. 

اشتقت إليك أمي رمز الحنان، وأنت تلحقين برفيق دربك الذي رحل قبل أقل من ثمانية أشهر.. ويا للمصادفة!!! 

كم حزنت كثيرا لوفاتك أخي العزيز عزيز.. وأنت في ميعة شبابك!!!

أبناؤك (محمد والحسين وفاطمة وعبد المالك وحسن) ووحيدتك (فاطمة) مدينون بكل ما وصلوا إليه، وما كانوا يرجون أن يصلوا إليه، من الرفعة والمكانة اللائقة إليك أيتها الأم الملاك، يا من تستحقين شرف وصفك بـ"الأم العظيمة"؛ لأنك شكلت دوما نوَّارة الأسرة الصغيرة والكبيرة. 

من جهتي رَفَضَ كلٌّ من عقلي وقلبي الاعتراف بأن هذه السيدة العظيمة التي كانت سندًا حقيقيًا لنا في هذه الحياة، قد غادرت بالفعل دنيانا، ولن نسعد بطلعتها البهية، وننظر في وشمتها الفاتنة، أو نسمع صوتها المجلجل مرة أخرى.

تُرَى هلْ ترحلين؟ 

"أحِنُّ إليك

وأظْمَأُ للعطر

للشمس في شفتيك

وحين تغيبين.. حين تغيبين

يغرق قلبي في دمعاتي

ويرحل صبحي تضيع

تضيع حياتي تضيع".

الشاعر: عبد الرفيع الجواهري


المصدر عبد المالك أشهبون

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: الدكتور عبد المالك أشهبون يكتب: أمي: يا حب عمري Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top