30‏/01‏/2022

عبد المالك أشهبون: نوسطالجيا الزمن الجميل مع "مقهى الشباب" في فاس


تعددت حكايات المقاهي في فاس التي كانت عالمة قبل أن تصبح فاس عاصمة الدجاج، ولكن الحنين ظلّ قائما للمقاهي الأصيلة ولأصحابها، ولنوعية زبائنها، ولخدماتها ولأجوائها الخاصة...ومع أن القاعدة التجارية تقول: إن لكل زبون ما نوى وهو يرتاد هذا المقهى أو ذلك؛ فإنه لكل مقهى علامة أو ميزة تميزها عن غيرها...

ولئن كان فاس الآن تعد مركزًا لأكثر المقاهي أناقةً وعصريَّةً في المملكة، لكنها مع ذلك باتت مقاهي فاقدة لروح المكان، بكل ما يحيل عليه من إيحاءات وإحالات... مقارنة مع المقاهي القليلة التي ما زالت تحتفظ بطيف فاس العتيقة بكل تميزها وتفردها...كل مقهى في فاس العالمة كانت تشعرك أجواؤها يومها بأن فيها شيئا مميزا جدا.. هذه المقاهي شبيهة بالأطباق الشهية، كل طبق له نكهته الخاصة، وطعمه المميز، وكل فضاء له لمسته الخاصة، فحين يريد الزبون تذوق نكهة المقهى وطعمها ومذاقها فإنه يعرف وجهته وقبلته.. فإن كنت ترغب في إطلالة رائعة على مدينة فاس العتيقة أو بشرب الشاي بالنعناع وتناول بعض الوجبات الفاسية الشهية ،عليك يا صاحبي بمقهى المرينيين، فسواء ارتدت القهوة نهاراً أو مساءً تأكد من اختيارك موضع الجلوس، فالمنظر هو أحد أهم الأسباب لزيارة القهوة في المساء، فالمقهى هي الأكثر قدرة على استقطاب السياح.



وإن كانت بغيتك في ارتياد القهوة عالية الجودة، فلن تجد أفضل من فضاء مقهى "زنزبار"، حيث يحلو لعشاق المقهى أن يعبوا فناجين قهوتهم، وهم على عجلة من أمرهم، لكي يعودوا إلى عملهم اليومي في مكاتبهم الضيقة... أما في مقهى الناعورة، فتيقن من أنك اخترت مكانًا مثاليًا لكي تعيش أطوار قصة رومانسية مع حبيبتك، وتحتفي في الأن عينه بما تبقى من مقاهي جنان السبيل، والمشهور بطبيعته الساحرة ونواعيره العتيقة.. في أجواء المقهى يعيش روادها لحظات ناعمة، رومانسية انسيابية، تتقارب فيها لمسات العشاق، معطرة بكلاسيكات أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز والحسين السلاوي والعنقا وغيرها... مقهى تختزل في تاريخها حكايات وقصص العشق المعلن، ووشوشات هيامهم وأحاديثهم المختلسة...

وحالما تطأ قدماك يا صاحبي مقهى "لاكوميدي"، حاضنة الذاكرة المسرحية، ستلفي نفسك في خضم فضاء ثقافي لا تخطئه العين، فضاء الفنانين والممثلين والمطربين...مؤسسها الممثل المقتدر عز العرب الكغاط، كان هدفه أن تكون المقهى فضاء ثقافيا بامتياز، ونافذة مفتوحة على مختلف الفنون الأدبية عامة، حيث يشكل المثقفون مجموعات صغيرة ينتمون إلى مختلف الأنماط الفنية والمسرحية خاصة.. ترى معظم مرتاديها وهم منهمكون في احتساء قهوتهم، أو غائرون في أفكارهم، وأيضا في أحاديث جانبية حول ما يجري في البلاد...

وحين تكون وجهتك "مقهى الشباب" بالقرب من ساحة المقاومة، فأنت من عشاق الموسيقى والأصالة والتقاليد العريقة في الطرب العربي، وستكون في حضرة أغاني الزمن الجميل بدون منازع رغم صغر حجمها، وتواضع مؤثثاتها...

ولمـــن لا يعرف "مقهى الشباب"، يجب التوضيـــح بأنهـــا تقابل مندوبية وزارة الثقافية في الشارع الكبير المؤدي للقصر الملكي، لا أدري سر تسميتها بمقهى الشباب، لكن الذين كانوا يرتادونها في سبعينيات القرن الماضي كانوا فعلا شبابا...يومها كانت المقهى اسما على مسمى، فها هم شباب الأمس أصبحوا اليوم شيوخا، فمعظم جيل التســـعينات كان أحلامه لا تنضـــب (جيل الحلم والثورة والتحرر بامتياز).

ولكن المفارقة العجيبة هي أن المقهى لم تشخ في اختياراتها الموسيقية، فرغم تغير مزاج صناعة الأغنية العربية وتطورها من جيل إلى جيل ومن فن غنائي إلى آخر ومن ذائقة موسيقية إلى أخرى، حيث دخول أشكال جديدة عليها من حيث الشكل والمضمون وتحقيقها شروط النجاح والقبول لدى الجمهور، إلا أن حضور أغاني الزمن الجميل لم يغب عن فضاء المقهى، وظلت محتفظا برصيدها الغنائي الأصيل، وبقي من تداولوا على تسيير المقهى متمسّكين ب هذا المنحى الموسيقي، حتى في زمن الأغنية الرقمية التي تحتفي بالحب، وخير مثال على ذلك أغنية (Digital Love) Daft Punk ، وما أنتجته من موسيقى تخص الشباب شكلا ومضمونا.

عودة جديدة إلى زمن فاس، باستعادة ذكريات عبرت أفق خيالي، والاحتكاك بالذكريات هو احتكاك بالأماكن أو الشخصيات أو الأصدقاء المشتركين خاصة... كان المشوار من ظهر المهراز حتى ثانوية القرويين طويلا وشاقا، لكنه مشوار لا يخلو من المشاهدات الطريفة، والإبصارات التي لا تبارح الذاكرة الموشومة حتى يومنا هذا...

كنت أستمتع بباقة من الأغاني المختلفة تبثها محلات تجارية، منها ما هو خاص ببيع أجهزة التلفاز، وآلات التسجيل، وأشرطة الغناء، أو منها ما كان يصدر من متاجر أخرى كان أصحابها من عشاق الطرب الأصيل زمنئد، أو في بعض المقاهي التي كانت تبث أشرطة غنائية متنوعة، غير أن مقهى الشباب، كان لها مسيم خاص، وميزة به تتميز، كانت تُعرف عند الفاسيين بـ"مقهى أم كلثوم"، وهي أحد معالم فاس القديمة، اسمها "مقهى الشباب"...



أغلب المقاهي في فاس هي أماكن "قتل الوقت" والكسل والخمول؛ غير أن هذه المقهى بالذات كانت مميزة في ما تبثه من أغاني خاصة، صباح مساء، وقلما خرجت عن هذا المنحى الفني الأصيل، فحين تسدل الستارة عن الست أم كلثوم، تتقدم على خشبة مسرح الغناء أيقونة أخرى من أيقونات الزمن الجميل في الأغنية العربية من مثل: محمد عبد الوهاب وفريد وحليم واسمهان وغيرهم من عمالقة الزمن الجميل...

أسير بجانب المقهى متأملا حال وأحوال مرتاديها، وهم في حالة انتشاء قصوى، بصوت أم كلثوم الأكثر رواجا في المقهى، وهو يُطربهم كما يطرب المارة أمثالي، وكذلك العاملين بالجوار. كان رواد المقهى جد شغوفين بأغاني الزمن الجميل، حتى في ظل خدمات المقهى المتواضعة، حتى نشأت بينهم صداقات، فبات يعرف كل منهم الآخر فبعد أن كان زبونا أصبح صديقا، إذ إن الحضور المتكرر في هذا الفضاء للترويح عن النفس هو الذي يحكم أواصر الروابط بين الزبناء، والأهواء الموسيقية هي العروة الوثقى التي يعتصمون بها، يألفون بعضهم بعضا ويتصرفون براحتهم...حتى إذا فاجأهم زبون جديد، تراهم يتململون في أماكنهم، وينضبطون في حركاتهم وسكناتهم.

لا أنسى صورة شاب قصير القامة يجلس على طاولة منصوبة خارج المقهى، بنظارتيه الشمسيتين، وجسده الضئيل، وثيابه العصرية. على وجهه تبدو علامات الوجع الداخلي، وفي عينيه توثب كبير نحو عوالم مفارقة للواقع الفاسي الراهن..

لم أعرف عن هذا الشاب أي شيء، سوى ما رأيته يومها بأم عيني، وأبصرته عن كثب، حتى ترسخت صورته في ذاكرتي، تظهر أمام بصري كلما مررت بجانب هذه المقهى بالذات. كان يمكن للفتى الذي كنته يومها أن أمضي في الطريق إلى ثانويتي التي لا أحبها، دون أن ألتفت إلى صورة هذا الشاب الهائم في ملكوت الصوت العذب والساحر، لكن شيئا ما دفع بصري ليقع على مشهد انتشاء الرجل بأغاني الزمن الجميل، لحظتها توقفت أتأمله بدون أن ينتبه لوجودي.

ربما كان الألم يعتصر قلب هذا الشاب، حتى وهو يتمالك نفسه بجهد كبير، ويغالب دموع عينيه بجهد أكبر...والظاهر أن المقطع الموسيقي الذي انغمس فيه كان يستجيب لحالته العاطفية المكلومة، بحيث بدا متقمصا دورا من الأدوار العاطفية التي تتردد في أغاني الست أم كلثوم، أو هكذا خُيِّلَ إلي.

كانت أغاني الفن الجميل والذوق الرفيع دواء لكل من فارقه محبوبه، واعتصر قلبه ألم الجوى، يستظل بأفياء كلماتها وألحانها، كأن يتصور نفسه أمام حبيبته، ولا يجد تعبيرا يلخص قصته العاطفية مع حبيبته التي يهيم عشقا بها سوى صوت أم كلثوم، وهي تصدح: "أنت عمري"، أو وهو يجيب من يلومه على عشقه المرضي، ويطلب منه أن ينساه، بحيث يجيبه العندليب الأسمر: "بتلوموني ليه... بتلوموني ليه... لو شفتم عينيه حلوين أدي إيه.... أو أن يجد العاشق نفسه في موقع المتخلى عنه عاطفيا، فيأتيه صوت ملك الإحساس وملك العود: فريد الأطرش، وهو يذكره: "وحياة عينيك مشتاق إليك... وليه دموعي اللي بينا لسا بينا"...وربما كان مقطعا غنائيا حزينا يلخص سيرة عشق تم إجهاضها، فقد تكون أغنية فائزة أحمد "غريب يا زمان" أجمل صوت يؤنس ليل الوحيدين المنتظرين أن يتحقق أملهم في وصال من يعزونه، وها هي حيث تنشد أجمل مقطع في الأغنية :"يللى وخداك الليالى بعيد وغايب عن حبايبك" .

أما حينما تسافر الحبيبة وتترك وليفها ينتظر عودتها على أحر من الجمر، فيكون صوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب خير ترجمان لوحدة العاشق وهو ينشد: "يا امسافر لوحدك"، فكلها كلمات معبرة عن ألم الغربة وخوف من الهجران والنسيان: "خايف الغربة تحلالك والبعد يغير أحوالك...يا مسافر وحدك يامسافر وحدك ...."، وحين توقذ مواجع العشاق الدفينة، أو أن يتذكر العاشق لقاءاته مع حبيبته ومكابداته وأشواقه، فيأتي صوت قيثارة الغناء العربي نجاة الصغيرة لتعبر عن هذا الموقف العاطفي وهي تصدح: "متى ستعرف كم اهواك يا أملاً ابيع من اجله الدنيا وما فيها..."، فقد تكون قد سمعت عن صوت الأنثى كثيرا يا صاحبي ولكنك لم تسمع أنوثة الصوت إلا مع نجاة، حقا لصوتها انوثة فوق الوصف...كلها أغاني ترد الروح معنى وكلمات وموسيقى... سحرها في روعة الكلمة، وعذوبة اللحن، ودفء الصوت ...

مشهد قصير لشاب يجلس في مقهى الشباب، في زمن ضارب مُقتطع من حياة عادية. لقد كان الطربُ يبلغُ بالشاب مَبْلَغاً يُرى معه مُغمَض العينين، مندمجاً في عوالم الكلمات وروعة الألحان وجمال الصوت، غيرَ مُبالٍ بالمارين بجواره، ولا عابئ بنظراتهم إليه، أو سماعهم لصوته ورأيهم فيه!! أحيانا يزيح نظارتيه بهدوء ويمسح عينيه من الدموع القليلة، ويستمر في الانتشاء بلا حدود.

اليوم ومع تأسيسي عائلة صغيرة أسرق بعض لحظات عندما تسنح لي الفرصة لأعيش ذكرياتي في حضرة هذه المقهى الموشومة في ذاكرتي، فقد ظلت المقهى تتباهى بأحسن ما لديها من أغاني الزمن الجميل منذ عبرت بجوارها، وأنا في ميعة فتوتي، حتى بلغت الستين من عمري وما بدلت المقهى من اختياراتها الفنية تبديلا، وكأنها تقول للزمن: هنا باقون. حتى وإن غابت شمس الزمن الجميل، سننتظرها. وأن الست ستظل نجمة في السماء تجود علينا بأجود الألحان.. في زمن ظهرت فيه موجة أغاني الحب الرقمي واحتقر فيه الفن الجميل برموزه، وأصبح فيها الفن الراقي مهمشا ومقصيا، بينما أعطي قيمة للتافهين!!! فكانت أغانيها من أفضل الأعمال التي تُدخل السرور على هذا القلب المكسور الذي لا ذنب له سوى أنه قبل يوماً ما حبيباً وشريكاً لآخر العمر، كأنه أسافر لعالم آخر...

ما يمثل لحظات مشرقة في الزمن الفاسي الرديء أن المقهى ما لبثت تبث باقة أغاني الزمن الجميل كما كانت، وما زال بعض الرواد معتصمين بطاولات المقهى كما كانوا، حتى في ظل تواضع خدمات المقهى، وفي سياق المنافسة الشرسة بين المقاهي التي تتكاثر كالفطر في كل شوارع فاس، لكن هؤلاء العشاق الزبناء ظلوا أوفياء للزمن الجميل، ينتشون بما تذيعه المقهى من أغاني عربية من الزمن الجميل، وهي تتناغم مع صوت المطربين الرواد في سمفونية تبعث الأمل والثقة في المستقبل...

كان صديقي المحامي المرحوم محمد بنطاهر يحلو له أن يصف رواد هذه المقهى بسخريته البريئة، حينما يصفرواد المقهى بمقهى "المهلوكين" عاطفيا، وكنت وما زلت أبتسم ابتسامة لا تفارقني كلما مررت بجانبها، وأنا أتذكر توصيف المرحوم بنطاهر الذي له أكثر من دلالة. لعل أغاني الزمن الجميل توقظ هموم قلوب تعيسة ومنهكة، ففيها يكتئب المراهقون، أولئك الذين عانوا من هجر الحبيب... وها هي أغاني الست أم كلثوم تعوضهم على فراق الحبيب، بفعل اللحظات المؤثرة المحيرة الأولى التي يتسببها الحب والمعاناة والجفاء وغيرها من أمراض القلب المستعصية على الجراح، فما علينا إلا الدعاء لأصحابها بالشفاء العاجل على حد تعبير صديقي الراحل...

في النهاية نقول: أين أصحاب الفن الهابط ليسمعوا لهذا الفن النظيف والراقي، وليرتقوا برؤاهم الفنية؟ ففي أيامنا هذه يا صاحبي لا تعرف للمقهى طعما ولا رائحة ولا نكهة، مقاهي تتشابه في ملامحها كما تتشابه سحنات الصينيين...فأين تلك المقاهي التي كانت تبث طاقة إيجابية على المستوى الوجداني أو العاطفي أو الثقافي؟ يبدو أنها في مرحلة الانقراض وهذا مؤسف جدا...وها هي الحياة باتت كلها نكد وأمراض في البدن، وأمراض في السمع، والتلوث الفني يحيط بنا من كل جانب، يا ويلي وظلام ليلي على فن اليوم وعاهرات الطرب.

وقبـــل أن نصل إلـــى النهاية، عليك أن تعدنـــي، عزيزي القـــارئ، بأنـــك تشرب قهوتك في فضاء مقهى الشباب، لسببين: فالأول دعما لما تبقى من خطوط الدفاع عن جوهر فضاء المقهى وهو الاستمتاع بالجمال كيفما كان وبأي تعبير كان، والثاني لتسجل اعتراضك الرمزي على تحول المقهى إلى فضاء لبث المقابلات الرياضية أو لقتل الوقت أو لتناول الشيشة أو مقاهي القمار التيرسي وفضاء تناول كل أصناف المخدرات...
وبه وجب الإعلام والسلام.


  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: عبد المالك أشهبون: نوسطالجيا الزمن الجميل مع "مقهى الشباب" في فاس Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top