توفي على حين غرة محمد الوفا بعد تاريخ حافل من النضال في صفوف حزب الإستقلال. ختمها بالتمرد على الحزب الذي كبر في كنفه، بعد رفضه الإنسحاب من حكومة عبد الإله بنكيران، مكررا نفس السلوك/ الخطأ لعز الدين العراقي الذي رفض بدوره الإنسحاب من حكومة 1985 بقيادة زعيم الإتحاد الدستوري المعطي بوعبيد. وقد جازاه الحسن الثاني بتعيينه وزيرا أولا لمواجهة قوى المعارضة بسلاحها ولم يتردد في اتهامها بعد ملتمس الرقابة 1990 بالعمل على قلب النظام الملكي. وتعزز موقفه بعد أحداث 14دجنبر 1990. المتزامنة مع دعوة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام الشغالين بالمغرب الى الإضراب العام.
ومن مكر التاريخ أن محمد الوفا رفض الخروج من الحكومة ضد قرارات الحزب الذي ادعى أنه مكتوب على جبينه. وكم كان محمد الوفا بارعا في مداخلاته بالبرلمان خلال دفاعه عن ملتمس الرقابة وإدانة أحداث الإضراب العام ل14 دجنبر لدحض أطروحة العراقي ومن ورائه إدريس البصري والمستشارين الملكيين أحمد رضا اكديرة ومولاي أحمد العلوي.
وقد شكل محمد الوفا ومحمد الخليفة ثنائيا بارعا في الدفاع عن مواقف الحزب في البرلمان طيلة التسعينات وشكلا خطرا حقيقيا على قيادة محمد بوستة وخلفه عباس الفاسي مما عجل باقتراح محمد الوفا سفيرا للمغرب سنة 2000 في الهند، والبرازيل وإيران، لمدة 13 سنة، وكان بمثابة نفي حقيقي وإبعاد عن الحياة السياسية، وهذا ما فهم بعد رسالة عباس الفاسي الى الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، ودخوله للحكومة. وبذلك تمكنت جماعة فاس من كسر شوكة جماعة مراكش في السيطرة على قيادة حزب الإستقلال خصوصا بعد انسحاب بوستة من قيادة الحزب وفاء لوعده. وتساءل عدة أصوات عن سر إبعاد الوفا من المشهد السياسي.
وقد فرض عليه واجب التحفظ كسفير عدم الإنخراط في معمعان الحياة السياسية المباشرة.
وعندما تم ضمه لحكومة بنكيران باقتراح من المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة كما قال بنكيران في نعيه، كوزير للتعليم كانت الأغلبية الساحقة من الشباب الجديد لا تعرقه، لكنها انبهرت من سيرته الذاتية السياسية والتنظيمية داخل حزب الإستقلال ، وتعرفت عليه بعمق من خلال مواقفه وتدخلاته القوية. وكل ذلك مشفوع بقفشاته في البرلمان وتصريحاته الصاخبة من قلب المؤسسات التعليمية.
لقد كان موقفه من عدم الخروج من الحكومة مبنيا على خلفية فشله في الترشح لقيادة حزب الإستقلال بعذ أن فقد المصداقية عندما طلب من الملك محمد السادس أن يأذن له بالترشح للأمانة العامة لحزب الإستقلال. مما حمله على عدم وضعه ملف ترشيحه تحت ضغط الرأي العام والصحافة التي سفهت سلوكه.
ومنذ صعود حميد شباط كأمين عام لحزب الإستقلال في
23 سبتمبر 2012 ، كان الوفا في الخندق المعارض له وإن لم ينخرط في حركة "بلا هوادة" التي كان يتزعمها عبد الواحد الفاسي نجل علال الفاسي مؤسس حزب الإستقلال وزعيمه التاريخي. لكن حركة هوادة أدانت إحالة محمد الوفا على الجنة الوطنية للتحكيم والتأديب التي قررت طرده من الحزب. معتبرة أن اللجنة ذاتها غير مستقلة.
لذلك فهم أن رفضه الخروج من الحكومة هو تمرد على شباط وقيادته، وفسر على أنه موقف شخصي أقرب الى الانتهازية، وتم هذا الرفض تحت ضغوط عائلية لأن زوجته هي نفسها نجلة علال الفاسي، وكان شباط يتهم العائلة بالإستفادة من ريع الحزب ونهب ممتلكاته.
واليوم رحل محمد الوفا وسيبقى درسه بليغا في ازدواجية الخطاب والممارسة السياسيين بالمغرب. فالكثير من النخب السياسية في بلادنا سقطت في هذه الإزدواجية بدون أساس نظري، ولم تعد الدولة تستعمل في الأغلب الأعم أسلوب الإحتواء بالعنف والوعيد والسجون والإختطاف، وإنما تركز على الإحتواء الناعم أو ما كان يسمى ب"الوعد والترغيب" ولم يعد يهمها الإنتماء الفكري والإيديولوجي للنخب وصار يهمها فقط تنفيذ الاوامر والقرارات الفوقية الصادر عن المخزن المركزي مع الإجتهاد الضروري في تبرير هذه القرارات من مرجعية فكرية وأيديولوجية موالية أو معارضة للسلطة. وفي نفس الوقت إضعاف هذه الأحزاب والتنظيمات وتشويه سمعة قادتها.
فالمراجعة اليوم لم تعد فكرية أو أيديولوجية وإنما صارت عملية وبرغماتية. لهذا تجد أحمد عبادي ذي مرجعية الإسلام السياسي رئيسا للرابطة المحمدية للعلماء وأحد مهندسي الإصلاح الديني. كما تجد اليساري الجذري محمد التامك مديرا ساميا لإدارة السجون. وتجد الإتحادي أحمد الحليمي مندوبا ،خالدا، للمندوبية السامية للتخطيط، وتجد زميله الإتحادي أحمد الكثيري مندوبا ،خالدا ، للمندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير. والأمثلة كثيرة قد تطال جماعة أعضاء "هيئة الإنصاف والمصالحة" و" المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" الذين لم يكتفوا بمناصبهم بل انخرطوا في مشروع حركة لكل الديمقراطيين ووليدها حزب الأصالة والمعاصرة.
فما يهم الدولة العميقة هو تنفيذ السياسات العامة للدولة. وتنزيل التعليمات وضبط التوازنات داخل مربع ودوائر الحكم. بإخراج يسر الناظرين ويعطي الإنطباع بوجود تعددية وانفتاح على مختلف الحساسيات والتوجهات ولو باستقطاب نخب وشخصيات وقطع صلاتها بأحزابها الأصلية. لذلك ليس من الغريب أن يصيح الوفا في وجه شباط أن حزب الإستقلال مكتوب على جبينه وكأنه يقول "أنا هو حزب الإستقلال".
وهذا ما يقوله اليوم كل المتشقين عن أحزابهم والذين وضعوا خبرتهم وتجربتهم الطويلة تنظيميا وسياسيا تحت تصرف السلطة مقابل أجر "محترم"، ويعطون الإنطباع أنهم الممثلين الحقيقيين لتوجهات أحزابهم وتنظيماتهم التي انحرفت عنها قياداتها الحالية، متغافلين على كون الأشخاص عابرون والتنظيمات والمؤسسات باقية. وأن القائد الحزبي بلا تنظيم ولا قواعد يبقى ضعيفا، وإن اعتلى كراسي المناصب العليا. شأنه شأن الجنرال بلا فيالق ووحدات عسكرية.
اسماعيل طاهري