... كَانَ كَثِيرَ التِّرْحَالِ مثل طيورٍ مُهَاجِرَةٍ، أَوْ كَشُجَيْرَةٍ في مِزْهَرِيَّةٍ، لَيْسَ لِعُرُوقِهَا أَنْ تَتَشَبَّثَ بِأَرْضٍ، تُسَافِرُ مَعَ نَسَائِمِ الاسْتِعْرَاضَاتِ، تَجُوبُ حَوَاضِرَ البِلَادِ، حَاضِرَةً حَاضِرَةً أَيْنَمَا حَلَّ المَوْكِبُ السَّامِيُّ وَارْتَحَلَ، ضِدّاَ عَلَى إِرَادَةِ الطَّقْسِ وَالمُنَاخِ، أَوْ كَنَخِيلِ "دَرْعَةَ" يُسَافِرُ مُهَاجِراً يَحْرُسُ فَخَامَةَ الْفَنَادِقِ وَجَلَالِهَا، وَ يَشْهَدُ عَنْ عَظَمَةِ الْمُنْتَزَهَاتِ الْخَاصَّةِ ... كَانَ كَثِيرَ التِّرْحَالِ بَيْنَ غُرَفِ الضَّوَاحِي المُعَدَّةِ لِلْكِرَاءِ ؛ كُلُّ غُرَفِ الضَّوَاحِي يَعْرِفُهَا، إِمَّا سَكَنَ بِهَا فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ أَوْ عَلَى الأَقَلِّ عَايَنَهَا وَيَعْرِفُ حَالَتَهَا وَعُيُوبَهَا، مَا فِيهَا مِنْ رُطُوبَةٍ، أَوْ ظُلْمَةٍ، مِنْ رَوَائِحٍ كَرِيهَةٍ وَنُزُولَ قَطْرَةٍ، أَوْ مَمَالِكَ نَمْلٍ وَ بَقٍّ وَ بَرَاغِيثٍ، أَوْ زِيّارَاتِ جُرْذَانٍ وَ بَعُوضٍ، كَمَا يَعْرِفُ عُيُوبَ مُلَّاكِهَا، مَنْ مِنْهُمْ مُزعِجُ يَسْهَرُ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَ مَنْ يَسْتَعْجِلُ أَخْذَ مَبْلَغِ الْكِرَاءِ قَبْلَ حُلُولِ آجَالِ الْكِرَاءِ، وَ كَانَ يُفَضِّلُ مِنْهَا مَنْ تَتَوَاجَدُ عَلَى الأعَالي أو فوق السّطُوحِ قَرِيباً من الشّمسِ كما كان يقول، ليغسل قميصهُ الوحيد ويَجِفَّ في الحين، ... وَكَانَ كُلَّمَا أَلَمَّتْ بِهِ أَزْمَةٌ مَالِيَّةٌ، حَدَّقَ مَلِيّاً فِي كُتُبِهِ وَمَيَّزَ أَيُّهَا أَسْمَنُ وَأَوْفَرُ شَحْماً والأَسْرَعُ فِي البَيْعِ، وَحَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مَنْ يَقْصِدُ بِهَا، و لاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ عَرْضاً ... كَانَتْ خِزَانَتُهُ سَاقِيَّةً جَارِيَّةً، يَشْتَرِي كِتَاباً كُلَّمَا اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَيَبِيعُهُ كُلَّمَا احْتَاجَ الشَّايَ وَالسُّكَّرَ ...سَخَر من شعر المرحلة ومن شعرائها يقول : في زمننا الحاضر، لم يعد الشعر حكرا على الشعراء، أصبحت النية تكفي، فالنية أبلغ من العمل، يكفي أن يقرر المرء أن يصبح شاعرا فيكون له ذلك، فقط بقليل حياء وكثير جرأة تطاول وترامي، وبكلمات رنَّانَةٍ لا تقول شيئا يُقَوٌلُها كل شيء ... ويجرب هو أيضا بهذا الكلام : سيدة القوم تربعت على كفي؛ تزهو قمرا يشدو ؛ في بحر من الغم زبدا تعلو؛ بين دِفَافِ أو دَفَّاتِ صدري أو على ضفاف كأسي؛ بين شفاهي المحترقة؛ في هُيامي وسُكري؛ فوق كتفي يسكن الغَضُوبُ نهري؛ نجما تغدو، ترفرف على المنسي قبري؛ سيدة القوم، يا رُمٌانةَ حقلي، ويا زهرةً تُزينُ نَعْلي ... ثُمَّ يقول : هذا كلام وإن كان شعرا غدا أحضر معلقتي وديواني؛ والأفضل أن يكون كلاما جميلا فنرتقي بالكلام لمرتبة الجمال على أن نقول شعرا يضعف المقال ... وَتَسْتَمِرُّ اَلْحَيَاةُ ... وَإِنْ دَائِماً عَلَى خِلَافِ مَا نُرِيدُ ... نَسْكُنُ اَلْعَادَةَ، وَالْعَادَةُ تَسْكُنُنَا كَمَا نَسْكُنُ مُنْهَكِينَ لُغَتَنَا الأَجْنَبِيَّةَ ... كُلَّمَا ازْدَادَتْ قُوَّةُ النُّورِ سُطُوعاً، كُلَّمَا ازْدَادَتْ قُوَّةُ الإِنْسَانِ ضُعْفاً... فما عساك أن تقول لما تكون أنت الوحيد على قيد الحياة، فوق جبال من الجثث ... دائما ننتظر من يفتحها لنا الأبواب، ... فتح الباب اختيار ... لا تفتح الأبواب إلا لمن يفتحها ... الواقع دائما ليس هو الواقع الذي نعرفه ونظن أننا نعيشه، لذلك نخطئ باستمرار، ولا نتواجد دائما سوى في المكان الخطأ مهما نتوهم من حقيقة الصواب ... يستعجل الكلام ثُمَّ يَغْرَقُ في الضَّحِكِ والسُّعَالِ والبُلْغُمِ والدُّمُوعِ والسبب كما يقال دائما من فرط تدخين الأعشاب ...
محمد زمراكي
مكناس- المغرب