استهلال حكي1
أذكر أنني كنت بين غفوة وغفوة أرقب فنجاني الصغير يدب نحو شفتاي ببطء شديد، يرتفع شيئا فشيئا ولا يصل، ثقيلا أراه على يدي المُنهكة، ثقيلا مثل أحمال صدري، أذكر أن رأسي كان ينحني وعنقي ينطوي وينحدر عونا على طي المسافة يستعجل الوصول.
أذكر أن مُرَقٌِشَةَ الحي سرقت سمعي بصوتها المنبعث من الدٌُرج، كان صوتا حادا يصل مثل إبَرٍ كبيرة كما لو كانت فوق رأسي مباشرة، كانت تحكي عن جارة، تتأوه في حكيها، تتألم، تضحك هي في الحقيقة تتحربأ، تنقل الأخبار بين الساكنة مثل باعوضة الحُمٌى. وبما أنهن تعودن على ذكر أرقام الشقق بدل أسماء ساكنيها فقد علمتُ أنها تُرَقٌِشُ عن الرقم ثمانية التي يدْعينها "المغيوبة" لاختفاء زوجها كُرها ضاق ذرعا من معاملاتها وفرٌ لِوجهة مجهولة لما استنفذ معها جميع الطرق الحبية للملمة شمل الأسرة والحفاظ على استقرار بيت الزوجية ولتجاهلها مبدأ الميثاق الغليظ المبني على صيانة الآخر بالاحترام كما كان يردد دائما في المقهى على مسامع أصدقائه أو مع نفسه لما يتركوه وحيدا حتى ظن البعض أنه أصيب بخلل عقلي واختلاط ذهني يصعب عليه معه معرفة مصالح نفسه فيقعد لها ولا مضار نفسه فيتجنبها مع افتقاره لمن ينظر في شؤونه وأموره ...
كانت الثمانية تعتزم بيع دراجة زوجها المختفي منذ شهور عديدة، فقد تعذر عليها إتمام إجراءات البيع في الدراجة لأنها في اسم زوجها، هي في الحقيقة لم تكن تعرف أن للدراجة أوراق وأرقام واسم مالكٍ يحتفظ بحق بيعها وهي في حاجة ماسة للنقود لتصفية دين بذمتها لفائدة مُرَمِم الأسنان استوفى آجاله واستكثر في الطلب ...
تذكرت فنجاني وقد شربه لحافي، مثلما تذكرتْ أنها تصرفت في العربون "مُقدم البيع" نَاوَلَتْهُ للبقال ليخفف أيضا من طلبات التسديد والدراجة بلا أوراق يستحيل بيعها ...
استهلال حكي 2
فَكٌرَتْ كثيرا وقررت نسيان موضوع الدراجة نهائيا، والخوض في طريق غيره يُوصِل إلى المال، لكن العُربون "مُقدم البيع" يوقظها من سهوها كل مرة، مُجبرة على رد "مُقدٌم البيع"، فهي تعلم أن المشتري فظ غليظ ويسكن غير بعيد، أولاده كُثْر وعلى درجة من القُبح، وزوجته شريرة؛ فصيلُ من فصائل جهنم تسلل إلى هذا الحي، لا يجرؤ أحد على معاكستهم ولو كان معه حق، ويصرون على إتمام البيع لا على استرجاع العربون ... اهتدت إلى درٌاجي الحي في دُكانه، علٌه يفتيها في ما هي فيه، عند مثل هؤلاء هناك حلول دائما، نصحها ببيعها قطعا منفصلة في سوق المتلاشيات، وهو مستعد للقيام بالمهمة مقابل نصيب ... وإلا فبسوق العفاريت فهو يعمُر وقت السحور وينفضٌ قبل الفجر بقليل، بهذا السوق يمكن بيع كل شيء كما يمكن شراء كل شيء، يمكن أن تشتري طنجرة بخضرها ولحمها ومرقها سُرِقَتْ من فوق النار ربما احتاجت طبخة، كل ذلك حظوظ، لكن الحظ دائما لا يشغل نفسه بالبؤساء ...
بدا على وجهها انشراح زائف وعلته حُمرة وأجابت ببسمة وطأطأة رأس:
- لا بأس مادام عندك لكل مشكلة حل ... الحلول أحيانا مُدمرة ... سأبيع الدراجة في سوق المتلاشيات ومن أين تدبير الباقي؟
دون أن يفكر لحظة أجابها بقهقهة منفرجة :
- بالجوار مؤسسة القروض الصغيرة، ستعطيك مالاً وأنت تختاري قسط الأداء حسب طاقتك من الأعلى إلى الأدنى، والكل مقابل رهن أثاث، وذلك ما أفعله أنا أيضا كل مرة، كلما غالبني كراء الدكان أو دفاتر الأولاد، أعرف أنني الآن شنٌاق لفائدتهم بالمجان، نؤدي لهم الفوائد ولكنهم يفكٌونك، يفكونك ... واقفةً تُسافر ُ بين الدراجة والغيبة والغدر والهجر ، بين سوق المتلاشيات ودفاتر الأولاد وإجراءات الطلاق، بين فواتير الماء والكهرباء، كُحُول التعقيم ومصفاة الهواء تبحث عن فجوة لأقساط الدين ... مادام لكل مشكلة حل، والحلول أحيانا مدمرة ... تراه لذلك كان يُدخن أعشابا، كان يحرق أعشابا كثيرة في ليله الطويل، كان يسأل هل أكل الأولاد ولا يُلح سوى على الشاي وعلبة الكبريت ... والأهم أنه لم يكن باعوجاج زوج التسعة ...
كاتب من المغرب