03‏/03‏/2015

يحيى بن الوليد : مهرجان أصيلا..بكل هدوء


سيكون أي كان «حالة مرضية» في حال اعتراضه على جهة من الجهات في تقاليدها ــ المحمودة ــ على مستوى الحرص على التعاطي للمسألة الثقافية وتوفير مهرجانات لها، وغير ذلك من أشكال تنزيل الثقافي إلى اليومي، ولا سيما بالنظر إلى الأهمية الراديكالية للثقافة على مستوى التصدي لـ»التجريف»، بشتى أشكاله، الذي صار المغرب، بدوره، مجلى له؛ على النحو الذي راح يؤكد على أن جانبا أساسيا في المشكل كامن في الذهنية بعد أن نهشها «التصحّر الثقافي» و«الخواء اللغوي». غير أن مناط الاعتراض، هنا، في الذكاء الانتهازوي السافر، والسخيف، لجعل الثقافة مطية لأوساخ لا تقلّ خطورة عن أوساخ السياسة، ما لم نقل تطمس هذه الأخيرة وتتفوّق عليها بأشكال شتّى. وبالنظر إلى إقامتي اليومية بأصيلا، المدينة الصغيرة والمفترى عليها إعلاميا، أكثر من أي مدينة مغربية، وبالنظر إلى اشتغالي على قطاع الثقافة، وفي مقالبها ومكائدها أيضا، يسهل عليّ، من خلال ما يعرف بـ»مهرجان أصيلا الدولي»، التأكيد على أن هذه المدينة «مختبر متفرِّد» للفساد الثقافي في تشابكه ــ الدقيق ــ مع الفساد السياسي في أفظع تجلياته. والمؤكد أن ما أقدمت عليه «الجمعية الوطنية لحماية المال العام»، قبل أيام، حين بعثت، في حال مدينة أصيلا تعيينا، برسالة إلى الوزارة المعنية، جدير بأن يعفي من الشرح في الموضوع. وللمناسبة، فالرسالة متداولة في شبكات مواقع الاتصال الدولي، وقد تضمنت معطيات «عقارية» خطيرة، على النحو الذي جعل الرسالة تطالب بإخضاع «حاكم أصيلا الأبدي» إلى مسطرة القانون الجنائي. لا أخفي أنني كتبت، وكتبت، عن هذا المهرجان ــ العجب ــ الذي لا يعلمه كثيرون، لكي لا نشير إلى المأجورين من العارفين، أن ما يعرف بـ»منتدى أصيلا» لا وجود له بمعزل عن المجلس البلدي الذي ظل حاكم أصيلا مصرّا على التشبث به على مدار يزيد على ثلاثة عقود. ودونما دخول في الطريقة ذاتها التي يحصل بها كل مرّة على المجلس، وتكفي الإشارة إلى أنه، منذ العام 1992، لا يملك شجاعة اعتلاء المنصة لأنه يعرف ما ينتظره. إجمالا، لقد وفّر المجلس البلدي لمنتدى أصيلا درعا عقاريا غامضا، مثلما وفّـر لمهرجان أصيلا موارد مالية وبشرية سخية وغير متوفرة لمهرجانات أخرى. فالرجل يحصل على غلاف مالي خيالي، يوظفه في أكذوبة الثقافة كما في حملته الانتخابية المستديمة. وإذا كانت المدن المجاورة لأصيلا ذات «هوية فلاحية وبحرية»، كما حال العرائش، أو «هوية تجارية فلاحية»، كما حال القصر الكبير، أو «هوية سياحية»، كما حال مرتيل… ففي أصيلا، لا مجال لمثل هذه الهوية. فالثقافة لم ترق إلى أن تمكّن المدينة من هذه الهوية، على الأقل من الناحية السياحية. يكفي أن نشير، تبعا لإحصائيات رسمية، إلى أن مرتيل تستوعب ما يزيد عن 400 ألف سائح خال عطلة الصيف، فيما لا تتجاوز أصيلا على أبعد تقدير 150 ألف سائح دون نسيان المستوى الاجتماعي لهؤلاء. إضافة إلى الصناعة التقليدية، التي كان من الممكن تنشيطها، كما في حال الصويرة، التي تمثـل فيها 17 في المائة من دخل المدينة، والتي يعقد فيها، وسط العام، مهرجان كناوة، الذي يستجلب 400 ألف زائر على مدار لا يزيد عن أسبوع واحد. هناك مشكل آخر، في حال أصيلا، وهو أن منتداها، الذي يتمظهر بالثقافة، يعقد الصفقات ويبني ويبيع الشقق، مما يطرح السؤال حول ما إذا كان هذا المنتدى ثقافيا أم أصلا تجاريا. إجمالا المهرجان مرفوض، بشكل قاطع، من قبل الغالبية العظمى من الأهالي من أبناء المدينة. والدليل على ذلك السخط الذي صار يواجهه هذا المهرجان في افتتاحياته الأخيرة، على النحو الذي أرغم فيه حاكم أصيلا ــ كما وفده ــ على الفرارــ وسط الغبار ــ من خلف «لكْوادرة» (الإسطبل) التي افتتح فيها مهرجانه قبل ثلاث سنوات، وعلى النحو الذي أرغمه بعد سنة على تهريب الافتتاح إلى مكتبة بندر المسيجة بالحديد من جهات ثلاث، لكن مع ذلك تكرّرت اعتقالات الناس وحرم الحاكم من نشوة التجوّال وسط المدينة. لقد بدا واضحا أن المهرجان لا يمكن افتتاح «أشغاله» دون حراسة أمنية مشدّدة وكثيفة، ودون عسكرة المدينة عن آخرها. وأظن أن الرسالة الملكية التي حرم منها المهرجان، خلال دوراته الثلاث الأخيرة، جاءت في محلها. وعلى ذكر المكتبة، فأصيلا كانت تنعم بمكتبة غنية ومتوفرة على كتب نادرة تعود إلى الثلاثينيات من القرن المنصرم، وبعد أن تم هدمها ظلت المدينة، على مدار خمسة عشر عاما، بدون مكتبة أو بمكتبة مهجورة في سرداب لا يجرؤ أحد على بعث أبنائه إليها. وعندما تمّ تشييد مكتبة أبى الحاكم إلا أن يكون الطاقم التابع لوزارة الثقافة تحت إمرته، وعندما رفض من رفض الانصياع لهذه النزوة التسلطية غير السوية تمّ تشتيت هؤلاء ما بين طنجة وقرى مجاورة وعلى حساب ملفهم الاجتماعي. وللأسف، لم يتم الالتفات إلى ملف هؤلاء والتعامل معه بجدية إرضاء لحاكم المدينة الأبدي. وحتى الآن لا تزال المكتبة تحمل عنوانا مبهما لا صلة له بالأدبيات المنصوص عليها في دولة «الحق والقانون». سيقول قائل إن الذي نعترض عليه، وبشراسة ملحوظة، كما سيضيف هذا المعترض، أبدع وأنشأ بنيات. ورأيي هو مع مركب ثقافي، بمواصفات مقبولة، وقبل هذا وذاك تابع لدولة الحق والقانون ــ كما أسلفنا ــ حتى لا يتمّ فيه تصريف الأعطاب النفسية وإرضاء المجموعات الداعمة والمنبطحة. ورأيي هو عدم التستـر على الجرائم العقارية باسم الثقافة التي هي أنبل من أن يتم استعمالها في لوثة الفساد السياسي. ورأيي كذلك مع عدم التسوّل والارتزاق بكرامة الناس والفقراء، في عواصم الخليج، والحصول على غنائم لا يعرف حجمها إلا المعني بأمرها، من أجل مهرجان باهت لا يتعدى أسبوعين لا أكثر. وكم كان سيكون مفيدا لو أن أموال المهرجان، التي يتم الحصول عليها باسم ساكنة المدينة وباسم كرامتها وبراءتها ومعاناتها المفتوحة، تصرف في ما يدعم «ملفها الاجتماعي» وفي المدار ذاته الذي لا يقصي الثقافة ذاتها من «الدورة السياسية». كما أنني لا أملك صلاحية الاعتراض على مشاركة «منتجي الأفكار وعمّال المعرفة» في هذا المهرجان، والكثير منهم أصدقاء لي من المغرب وخارجه، ألتقي بهم ــ طبعا ــ خارج «مربّـع الفساد». ذاك أن المثقف هو آخر من يمكن شرح ما ينبغي شرحه له. وأظن أن الحد الأدنى من الأخلاق، أو «الإيتيك» بالتعبير الفرنسي، لا يزال مطلوبا. ولذلك أجدني ضد الأبواق الزاعقة، والصدئة، التي تلخص المغرب، بأكمله، في أصيلا بحثا عن «الضلع والجزيرة»… بل تقاتل، بشراسة فولاذية، من أجل دعم الفساد ومن أجل دعم شخص ــ مع احترامي للقارئ ــ محدود المعرفة، لكنه مجيد لـ«خواء الشهرة» ومنطق «الشكارة» مثلما هو مصّـر على القتال إلى «الربع ساعة الأخير». لسنا ضد الثقافة بمعناها الإنسانوي الأنبل، لكننا ضد الثقافة بمعناها الارتزاقي المترهّـل على نحو ما هو حاصل في «مدينة الثقافة والفنون» تبعا للكليشيه الخادع والمترهّـل بدوره. أعتقد أن السياق الذي جاء فيه المهرجان لم يتغيّر فقط، وإنما راح أيضا. كما أعتقد، باطمئنان المؤمن، ومن ناحية الثقافة تحديدا، وفي مغرب اليوم ككل، أنه لا مجال لـ«تجـْـبادْ لوْجَهْ» و«تخْراجْ لعينينْ»…. إلخ.


المساء الأربعاء 25 فبراير 2015



  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: يحيى بن الوليد : مهرجان أصيلا..بكل هدوء Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top