31‏/05‏/2013

أسطورة العين الزرقاء -مسكي- بضواحي مدينة الرشيدية

alt
د.محمد بكراوي
عن: www.tafilaltnews.com
الأسطورة: كانت عذراء حسناء، هيفاء، رشيقة القوام. طويلة الشعر، مرة تجالسه وأخرى تفترشه؛ رطب حريري يسايرها على استحياء. ناصعة الجبين عريضته، صافية العينين، لا يمكن وصف البؤبؤ بلون خاص، له من كل طيف دائرة إلا أن الأهداب طويلة قصبية سوداء. هي وجناء وردية الخدين، قائمة الأنف، صغيرة المنخرين، دقيقة الذقن؛ ليست بقمرية الوجه وهي أشد منه حنوا، ولا شمسية اللون وهي أكثر منها إشعاعا ودفء.عسلية القول بألسنة الأقوام. باختصار مجحف جمعت الحسن من أطرافه.كانت عاشقة لشاب في منطقة بعيدة عن هذه الواحة بمسيرة أربعة أشهر أي خمس قروء (دورات حيض) ولا أحد يعرف من أين كان مسيرها أمن الشمال أو الجنوب باعتبار الوادي، أومن الشرق أو الغرب؟ رغم ما يتردد من كونها من أب عربي من فزنة وأم أمازيغية من إيزيلف. الأرض من فوق، دائرة ممتدة على مرمى العين، جرداء صحراء، من مر على عجل لن يدرك الأخدود والواحة. لها عصبة إخوة عددهم بعدد شهور السنة، والغيد المكرمة المذللة وحيدتهم، تعتبر كنزهم في الدهاء الرصانة والبهاء والبركة. أينما وصلت حلت الكثرة. قد كانت محط الانتباه و المطمع، ومصدر فخر وعزة ليس لعائلتها فحسب، بل لمن يفوز برØ �ى أهلها ويتمكن من المصاهرة، لأن جماعته ستتقوى بقومها.

وجاءت لحظة كسر شوكة القوم وإذلالهم بأهم وأغلى مصدر أنفتهم.
قد كان في قبيلة العدو رجل فريد، لا يعرف له أصل، ولا أملاك، ولا زوج. طويل القامة واللحية، قوي الهيكل، نحيل البنية؛ ليس بالأشعث الأغبر، ولا بالوقور رغم الشيب. مبيته في العراء صيف شتاء، ومأكله ومشربه حسبما اتفق: مرة من محصول الساعة- وفي والواحة الخير- وأخرى من العطاء. فهو لا يدخر ولا يشكر، وبذلك يجمع الى انعدام الوفاء قلة الحياء.على لسانه حلاوة رغم انه لا يتقن أية لغة وبلسانه عي كأنما قطع منه طرف لزلة سابقة؛ حلاوة لا ينطلي على أحد ما تزبد من سم ناقع؛ وعلي يده المرتجفة ما يشي بشيء مجهول يثير الرعشة، ربما لما على ظاهر اليد والمعصم والذراع والكتف والصدر Ù
 �ن الوشم ( أهرامات، عيون، نجوم داوود) أو لمسحة من الدهر والهم .
إنه الشيخ الأعور الأبرس الأبتر العاقر، الذي يتحاشى قومه وغيرهم ذكره. وان دعت الضرورة فهو لا يسمى، وبلغ الأمر أن أصبح مصدر شؤم، فمن صادفه عاد الى منامه ولو هنيهة ليبدل النهار بأفضل منه، ثم يغتسل أو على الأقل يعيد تنظيف وجهه وأطرافه ليستأنف الحياة اليومية من جديد.بمجرد أن لمحها في خلوة حديث وسط الغابة بشعب العشاق مع الشاب؛ نصب من نفسه براحا في وجه كل جهة وصوب. اكتشف الناس- سواء منهم المقيم أو العابر-: أن الصوت أقوى من صاحبه بدليل طول النفس، وعدم الشعور بالإجهاد، والاستمرار في الاستنكار والتشهير؛ وبذلك شاع الخبر بين قوم القبائل وخاصة العدو منها قبل
 الحليف. و اجتمعت فلول على رؤوس الطرقات، وكان الادعاء محو العار ونصرة فضيلة القبيلة وأقوام الواحات المجاورة. لم يسمع منها، ولم تعد لقومها فيها كلمة. فأما الشاب فألقى بنفسه في "خطارة " ليخرج من احد الآبار البعيدة بعد رحلة سفلية، ويتلصص الأخبار ليطمئن على حياة الغيد. غير خائف ولا متردد امتطى صهوة جواد في مستهل الليل، وبعد مدة وصل. دخل الحي مترجلا تحت غطاء سكون رهيب، ويده على خنجر كأنه قد من لهب. فك وثاقها المكين، وأخرجها على مرأى من عصبتها الذين كانوا بين الشفقة عليها و الشماتة بهم؛ وهو يردد" من كان رجلا يكلمك لآريه حين وضعه".
بعد أن سارت بكل منهما فرس دهماء ثلثي الليل معا, انتبهت لحالها وقالت له ما مفاده أشكرك وأنا على يقين أنك ما فعلت غير المروءة ، وإنني أحبك مقدار ما أحب الأهل والأعداء. هذه القبائل والأعراف اغتصبت منا الشباب وثمرة لذة الحياة قبل النضج ، لنفترق حالا على سبيلين مختلفين حتى إذا أوذي احدنا نجا الثاني. وكل ما اطلبه منك هو: مهما كان جنس المولود البكر عندك امنحه جزءا من اسمي. و إياك أن تبقى حبيس انتظاري، فأنا والأرض سيان فلك مني في كل فتاة قبس من حسني ونفسي وقوتي وليونتي، وسيكون لك في كل إناث الدنيا شيئا عجيبا باهرا، لا تراه إلا عينك أنت المحب المتيم. وهكذا ضر
 ب كل على وجهه في الصحراء وبهيم الليل.
وبعد أيام بعد أصابع اليد من الجوع والعطش، قايد أحد المتربصين الغيد بمزود من يابس التمر والكليلة مقابل الفرس، وهو ينوي الكرة عليها لسبيها. فلما فارقته، أبانت عن حمق بالتبول قربه واللعب بالسائل والحصى؛ ثم تركت الزاد، وغابت بين الكثبان كالظبية. بقي المتربص جامدا في مكانه، يراقب أن تصدر منها حركة، ليتبعها ويقبض عليها، لكنه لم ير لها أثرا. ربما اقتنع بأنها تحمل سرا إن لم تكن ساحرة أو جنية الفيافي، فأقر في نفسه أن يرتبط بها ويخلص في خدمتها ولا يترك على الأرض من يؤديها فهو دونها والحياة. وبعد يومين أحضر سلوقيا ليشم الأتربة والأثر، وفعلا تمكن من اللحاق
 بها، لكن خسارته كانت بأن تحول عنه الكلب وأصبح لها حاميا منبها، رفيقا صائدا مخلصا، مما جعل الرجل لا يقترب ولا يفارق البتة. فأصبح الثلاثة يتقاسمون الزاد والخدمات والرحلة، ولا يتشاركون الهم والكلمات والثقة.
وفي يوم شديد الحرارة والعطش، نزل الثلاثة على مسافات متباعدة شعبا، تطل من بين أحجاره رؤوس فصيلة ابن عرس. وبعد مسافة قصيرة امتدت الواحة بنخيل يابس من أثر الجفاف تلهو به الرياح، والوادي في الأسفل لا حياة فيه إلا للبوم والغراب والهوام، فلا طير يصدح، ولا ظلف يرعى؛ وما يبدو إلا ما يعيش على الموت، ويلوح بها وينوح. اقتربت والكلب يسبقها من جرف مغارة، وهي تتحسس الأحجار، مخافة أن تتدلى من أعلى أفعى متعددة الرؤوس، أكثر منها جوعا وعطشا، وحاجة في هذه الحال إلى ما تقتات منه. حينها أخد الكلب يحفر في داخل المغارة بكل قواه ، كانت تعاني من الخوف أن تصيبه لسعة قاتلة.
  فأخذت تصيح بصوتها المبحوح الذي لا يكاد يبين، ليعود إليها دون جدوى. لقد كان يجتهد أكثر وهو يلقي التراب والحصى على جانبيه. فجأة بدأ يلعق وهو يلهث، وانتبهت إليه وهي في دهشة:الكلاب تلعق الماء؟ الماء؟ بالإشارة سمحت للرجل بالاقتراب، فارتوى بعد الكلب، ثم اقتربت على مهل، وغرست رجليها في المجرى وأخذت ترفع منه بكفيها لتغسل وجهها. وبدأت نسبة الماء ترتفع وتزداد الى أن غمرتها الى الصدر.كانت الحسناء واقفة ترتجف من برد المياه وأثر الجوع، والماء الفضي يزداد ويزداد ، ويجعلها في الوسط؛ وكان الغريب يصيح: عين زرقاء، عين زرقاء،امسكي امسكي. فاضت المياه وأحدثت متصر
 فا نحو الواحة ثم الى الوادي. لم يترك الكلب حسناءه لتغرق، وإنما سبح وسعى لإخراجها، وبذلك أنقذها من الموت المحقق.
شاعت أخبار العين، فجاء الناس بأسلحتهم عائدين الى ممتلكاتهم. و أخذوا أولا بنصب الخيام، لكن سرعان ما علموا انه لم يعد لهم بد من الإقامة على المنبع إلا الأغراب وعلى رأسهم خادم المسكينة المدعو يوسف، الوسيط بين بركاتها والناس، ولذلك أقام بقصر تازناقت، مما جعل أبناء هذه القبيلة يستفيدون الى اليوم من المسبح وبعض النخيل دون مقابل كحق طبيعي بالإرث من غير تخصيص لأسرة أو عظم.
بنى القوم متجمعا لهم أطلقوا عليه: تمسكيت، لا تزال رسومه وسط الغابة تعرف الى اليوم بهذا الاسم . تطور المبنى إلا أن عوادي الدهر من جفاف وفيضانات زيز الغادرة، والحروب المتناوبة باعتبارها أهلية أو قبلية لإرساء الدول الصاعدة والسيطرة على الممرات الإستراتيجية ومنابع الماء، لم تسمح بأن يتحول المجمع الى مدينة. والمغارة حيث المنبع الى اليوم يتبرك منها بالذبائح من الدجاج والشموع قصد قضاء الحاجات كالزواج والبنين والنجاح. والتقرب أصبح في الغالب يتم بنوع من الاحتفال بين الأقران العزب، والأسر، وبنوع من التكتم والمستور تحت غطاء المتعة بالسياحة الداخلية، Ù
 �خافة أي حوار أو ملاحظة أو عدسة متربصة شامتة.
تمسكينت لقب عذراء مسكينة لا حول لها ولا قوة. لقب كل من غدر بها الدهر والأهل والرفيق، وأرغمت على العيش من العطايا. أصل الاسم الجريح: عربي، أصبح يمتلك الصيغة الأمازيغية. تمسكينت لم تكسب لقب ولية ولا صالحة، ولم تحتقر بدعوى الرذيلة. منحت القدسية للمرأة التي تكون وحيدة، ولو كانت خليلة للمعلوم والمجهول من الذكور. لهذا السبب ترسخ عرف، جعل من المفروض: عدم التعرض لأي امرأة بسفيه القول ولا بالغيبة فيها، مهما شاع من أمرها؛ مع طلب النجاة من بأسها ودعوتها. فهي المظلومة مهما غوت. وهي المسكينة الضعيفة بقومها، القوية بضعفها و صدقها. ولازال الناس الى يومنا هذا يخØ
 �لفون عنوة بان اسم العين الزرقاء من امرأة ذاة عين زرقاء، غرقت وانقدها كلب وكان صاحبه يصيح امسكي(فعل أمر المخاطب أنثى) وللتخفيف اشتهرت ب:مسكي. وكبار القوم : من نساء ورجال يذكرونها بالعضو: الرجل. لكن إن كان في هذا القول شيء من الصدق فانه لا يرقى الى الأسطورة الأصل التي تكررها الأجيال والأرض والبنايات التي كانت في حاجة الى حكاية خلق و وجود، وما العين وفعل الأمر والرِّجل إلا شظايا منها. ولن نعدم في المغرب مثيلا لها: إنه على حسب معرفتي مرتبط ب: تيزنيت المدينة ذات نفس الأسطورة ومعنى نفس الحدث والاسم.
إشارة: لما دخل الاستعمار الفرنسي الغاشم المنطقة عانى الأمرين، فكان الألم يمتعصه مما ذاق من شدة بتوالي الوقائع مع السكان والمجاهدين، وعلى رأسها وقعة شعبة اللحم، و وقعة الرجل المشهورة بمسكي، التي بقيت فيها جثث العدو في العراء فشبعت منها الوحوش والغربان. فلم يتقرر منحها فرصة الانتعاش، لتظل محمية تسر السياح.
جمع الأسطورة من الشفاهي بالدارج المحلي وأعاد تدوينها : د.محمد بكراوي
  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك
التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Item Reviewed: أسطورة العين الزرقاء -مسكي- بضواحي مدينة الرشيدية Rating: 5 Reviewed By: جريدة من المغرب. smailtahiri9@gmail.com
Scroll to Top